البلاد تحولت مع الوقت والسنين، أسيرةً لنظرية المؤامرة، المسؤولون سوقوا لذلك، والعباد حرموا من الكرامة الوطنية، حتى حقوقهم سلبت والشمس في كبد السماء.. أموال الشعب باتت غير مسموحه لهم إلا بالسلاح، بعد أن أصبحوا دميات تتنازعهم القوى السياسية وأصحاب النفوذ، ورئيس الجمهورية مرتهن، هو أشبه بمعتقل «مطلق السراح» من قبل حزب يدعي السياسة، بينما يمارس أقصى أشكال الفاشية الدينية والتبعية للخارج، وصاحب القرار واحد، هو حسن نصر الله الذي تحول إلى مرشدٍ ديني حتى على الطوائف المسيحية.

لبنان على الدوام ما يُكرس لمفاهيم غريبة على الصعيد الشعبي والحكومي، فما شهده مؤخرًا، يكشف عن أن الدولة باتت إما غير موجودة، وإن كانت لا تزال باقية، فهي غير مؤهلة لقيادة حتى نفسها، والتخبط والفوضى الذي تعيشه القيادات السياسية في تلك الدولة، بلغ مستويات غير مسبوقة، والناس سئمت التعويل على سلطة هزيلة، من رأس الهرم حتى أسفله، والهشاشة ضربت مؤسسات الدولة، والدستور فقد قيمته ومضمونه، وتحول إلى حبرٍ على ورق، نظير قيادة البلاد إلى المعسكر الإيراني، إما بالمال، أو بقوة السلاح والتهديد والوعيد، والتصفية والقتل، في كثير من الأحيان.

وأن يسطوا رجلٌ أو سيدة على مصرفٍ ما، ليتمكن من الحصول على ماله الشخصي، فهذه سابقة لم تحدث حتى في ألعاب الفيديو، لكنها حدثت فيما يسمى لبنان.

قبل أسابيع هاجمت شابة أحد البنوك حاملةً سلاحًا، قالت لاحقًا إنه غير حقيقي، وتمكنت من سحب أموال شقيقتها التي تعاني من مرضٍ عضال.

عقب هذه الحادثة بأيام لحق شاب ثلاثين بركب الشابة، واقتحم أحد المصارف اللبنانية للحصول على أمواله الشخصية.

أتصور أنهم لصوص شرفاء، بصرف النظر عن قول وزير الداخلية اللبناني وقتها «يجب أن يتنبه المودعون إلى ألا يدفعهم أحد لزعزعة الوضع الأمني في البلاد لأهداف سياسية، أو لتنفيذ أجندات معينة»، وحين سُئل عن تلك الجهات التي يقصد، أجاب «بعض الجهات تدفع الناس إلى هذه الخطوات وهي معروفة، لكن لا يمكن أن نكشف تفاصيل أكثر بسبب سرية التحقيقات».

وهذا الحديث فيه ضحك على ذقون اللبنانيين، سواء من المودعين أموالهم في المصارف أو عامة الشعب، وإلا ما قيمة تلك الجهات التي تدفع أشخاصًا، أمام ما يُعرف من جهات وأحزاب دفعت البلاد برمتها للدخول في مراهنات أكبر من لبنان، وحولتها إلى محافظة تابعة للجمهورية الإيرانية، تأتمر لأمر المرشد على خامنئي في طهران، بتنفيذ من الوكيل الإيراني في الضاحية الجنوبية لبيروت.

ومن ثم على ذكر التحقيقات، يبرز سؤال هو الأهم، ماذا عن تحقيقات تفجير مرفأ بيروت؟ وسلسلة الاغتيالات السياسية التي شهدتها لبنان حلال السنوات الماضية، والتي تطول قائمتها؟

استنادًا على ذلك، أتصور أن رد فعل الحكومة اللبنانية، لا يتجاوز كونه تخديرًا للشارع اللبناني عن أمرٍ ما، بالتسويق لنظرية المؤامرة التي ذكرتها في مقدمة هذه السطور.

على الصعيد الشخصي أجد أن السيناريو الذي ساقه وزير الداخلية، قد يخفي عملية تعمد جهات بعينها للتغطية عليها.. كيف؟ هذه التصورات يمكن طرحها على شكل أسئلة، فما الضامن بأن أموال المودعين لم تذهب لتمويل أحزاب سياسية متطرفة، كحزب الله باعتباره المتحكم في الاقتصاد والسياسة وكل شيء؛ لا سيما وأن الميليشيا معروف عنها تلقي التمويل من إيران، التي تعاني من حصار ضيق عليها الخناق من الناحية الاقتصادية، في ظل اتساع رقعة مشاركة الحزب بأعمال التخريب التي يشهدها العالم العربي، من سوريا إلى اليمن، وصولاً إلى العراق مؤخرًا؟

وما الأدلة التي تضمن عدم استخدام الحكومة اللبنانية الحالية لتلك الأموال لمواجهة العجز في الموازنة الرسمية للدولة، في ظل بلوغ سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل العملة اللبنانية ثمان وثلاثين ألف ليرة للدولار الواحد؟.

والأرقام لا تكذب، فحسب إحصائيات اطلعت عليها قبل كتابة هذا المقال، يتضح أن حجم الأموال المودعة في المصارف اللبنانية مائة مليار دولار، فيما يبلغ عدد البنوك ثلاثة وستين بنكًا، وأغلب تلك البنوك تشترط صرف الليرة اللبنانية بالدولار بسعر الصرف الموازي، بمعنى أنها تريد فرض عمليات الصرف التي تجري في السوق السوداء على قيمة الأموال المودعة، وهذا ما أثار أصحاب الأرصدة الذين سعوا لسحب أموالهم منها.

وكل ما سبق في كفة والقادم في أخرى، فلبنان في منتصف شهر أكتوبر الحالي سيدخل في المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للدولة، وبالوضع القائم هناك، فإن الفراغ هو الأقرب، وما إذا عدنا للوراء إلى الانتخابات النيابية التي جرت مايو الماضي، سنجد أنها لم تحقق أدنى تطلعات الناخبين، كونها لم تلب أمنيات الإنسان اللبناني الطامح لإجراء إصلاح سياسي، يفترض أن يتم من الأعلى إلى الأسفل، وليس العكس.. أي من رئيس الجمهورية حتى الأدنى.

والأخطر فيما سيأتي من أيام، إذا ما تحقق أي اتفاق مع إسرائيل على ترسيم الحدود البحرية حينها سيتحول لبنان رسميًا إلى جمهورية حزب الله؛ باعتباره المتحكم الأول والأخير في هذا الملف، وهو من أعاق المفاوضات وتولى وضع العقدة وإزالتها في هذا الشأن، وإن حصل الاتفاق فالواجب القول على لبنان السلام، حينها ستتحقق قوة الحزب على الدولة، ويتم تكريس مفاهيم ولاية الفقيه انطلاقًا من ضاحية بيروت الجنوبية.

هذا هو لبنان.. جرحٍ دامٍ، وخاصرة رخوة للعرب.. منذ استقلاله قبل عقود.. إلى أن عوده الجنرال النائم، وحسن نصر الله على القلق.. حتى ظن أن الطمأنينة كمين.. ووقع هو وشعبه به.. وحال السياسيين ينتظر تذهب السكرة.. وتأتي الفكرة.