شكلت مسألة المعلوم من الدين بالضرورة مساحة واسعة وضخمة في فضاءات الفكر الديني على مر العصور، فمنذ عصور التدوين للعلوم، مروراً بعصور المناظرات والجدل الفقهي والأصولي والعقدي الذي صقل كثيراً من العلوم، فتمخض عن ذلك التقعيد والتأصيل والتأسيس لأصول العلوم سواء أكانت علوماً مهمة تسمى علوم الآلة أم كانت علوماً مساعدة ومساندة، تتضح مهمتها في دعم ذلك التأسيس والتقعيد والتأصيل لتلك العلوم.

وهذه المسألة التي تسمى (المعلوم من الدين بالضرورة) لها تعلق بكل أبواب الفقه والاعتقاد والأصول (وأعني بذلك أصول الفقه) وكذلك أصول علم الحديث، فكل أبواب الفقه عند بدايات أي كتاب فيها.

كتب الفقه في جل المذاهب، تقسم إلى كتب ثم أبواب ثم إلى مسائل، فمثلاً عند بداية كتاب الصلاة أو الحج أو الصلاة أو البيوع أو كتاب الطلاق، يقرر الفقهاء بعد التعريفات أن وجوب هذه الأحكام في الجملة من المعلوم بالدين بالضرورة، أي إن وجوب هذه الأحكام يعلمه الكافة دون الحاجة إلى الاستدلال أو البحث أو النظر في الأدلة وتمحيصها واستخراج الحكم الكلي في وجوبها بعد تحقيق المناطات وتنقحها. قال الطاهر ابن عاشور (الآية دالة على حجية إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل لشريعة، وهو المعبر عنه بالتواتر، وبما علم من الدين بالضرورة، وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبي صلى الله عليه وسلم مما هو تشريع مؤصل، أو بيان مجمل، مثل: أعداد الصلوات والركعات، وصفة الصلاة والحج، ومثل نقل القرآن، وهذا من أحوال إثبات الشريعة، به فسرت المجملات، وأسست الشريعة، وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه، وهو الذي اعتبر فيه أبو بكر الباقلاني وفاق العوام.

واعتبر فيه غيره عدد التواتر، وهو الذي يصفه كثير من قدماء الأصوليين بأنه مقدم على الأدلة كلها). وكذلك عندما ينص الفقهاء أنه قد أجمع الصحابة على أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، خاتم الرسل والأنبياء، وعرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم، ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العنسي، فصار معلوماً من الدين بالضرورة، فمن أنكره، فهو كافر خارج عن الإسلام.

ومحصلة أقوال أهل العلم من الفقهاء والأصوليين والمحدثين في ماهية مسألة المعلوم من الدين بالضرورة أنها تتصف بأنها تكون مسألة قد تم الإجماع عليها إجماعاً قطعياً، وأنها أخذت صفة المعلوم من الدين تواتراً حتى يستوي في العلم بها العامة والخاصة، وأنها حملت في طياتها بأن إدراكها ووصولها إلى النفس حتى تعجز هذه النفس الإنسانية عن دفعه، وكذلك كل ما أفاد علماً ضرورياً في الشرعيات فهو من المعلوم من الدين بالضرورة.

هكذا قرر أهل العلم من الفقهاء والأصوليين، ولا يعني ذلك النقل الموافقة عليه، لأن مسألة المعلوم من الدين بالضرورة قد ارتبطت بمسألة التكفير، عندما ينكر المكلف شيئاً من تلك المسألة، فقرر الفقهاء والأصوليون ما فيه الكفر من المسائل، وجعلوا لها تقسيماً واضحاً وبيناً وهي على عدة مراتب أحدها: ما نكفره قطعاً وهو ما فيه نص قطعي الدلالة وقطعي الثبوت، وعلم من الدين بالضرورة بأن كان من أمور الإسلام الظاهرة، التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام كالصلاة والزكاة والصوم والحج وتحريم الزنا ونحوه.

الثاني: ما لا نكفره قطعاً وهو ما لا يعرفه إلا الخواص ولا نص فيه، كفساد الحج بالجماع قبل الوقوف. الثالث: ما يكفر به على الأصح الذي لم يبلغ رتبة الضرورة كحل البيع. والرابع: وهو ما فيه نص لكنه خفي غير مشهور كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب.

فالمعلوم من الدين بالضرورة مسألة طاولتها الأيدي ولاكتها الألسن واختلفت فيها الأنظار والأقوال، فهناك من المسائل من يقررها فقهاء الأحناف مثلاً أنها من المسائل العظام والظاهرة وأنها من المعلوم من الدين بالضرورة، وأن من ينكرها فقد استحق إطلاق الكفر عليه وإخراجه من الملة الإسلامية، بيد أن هناك فقهاء من الحنابلة أو الشافعية أو المالكية يرونها ليست مسألة من المسائل العظام الظاهرة التي تكون من المعلوم من الدين بالضرورة.

وهكذا استمرت المسائل والأحكام الشرعية فيها حتى عصرنا الحاضر الذي خرجت فيها نابتة شاذة فأخذت تجمع النصوص والمسائل التي حكم عليها بعض الفقهاء اجتهادا منه أنها من المعلوم من الدين بالضرورة، ثم أخذت تلك الشرذمة الشاذة تنزل تلك الأحكام التي قيلت في عصرها وأحاطت بها بيئتها والتي تختلف اختلافا جذرياً عن ظروف وبيئة واقعنا المعاصر. كانت مسألة المعلوم من الدين بالضرورة منذ بدايات بعث المظاهر الدينية في المجتمعات المعاصرة أم المسائل التي يختلف عليها، وتدور المناظرات والمناقشة بين كل التيارات والاتجاهات الدينية حولها، وكانت هذه المسألة الركن الأساسي لدى تيارات التطرف من جماعات الجهاد والكفاح المسلح في تكفير الناس من الحكام والمحكومين الذين يعملون في فلك الحكام والدولة التي ينتمون إليها. وفي نظري أن هدم هذه المسألة وفك الارتباط بينها وبين مسائل التكفير لهو حري بأن يعري تلك التيارات المتطرفة ويجعلها بلا أركان.

والقول الفصل في مسألة المعلوم من الدين بالضرورة، أنها مسائل من اجتهادات الفقهاء والأصوليين وليست نصوصاً شرعيةً قطعية الدلالة والثبوت، فما دامت مسألة المعلوم من الدين بالضرورة وتفاصيلها وجزئياتها من اجتهادات الفقهاء والأصوليين فإنه لا يترتب على المخالفة فيها أو الاعتراض عليها تكفير وإخراج من الملة الإسلامية، فمثلاً من ينكر مسألة القتل في مسائل الردة لا يمكن إخراجه من الدين وتكفيره، لأن هذه المسألة فيها اختلافات جذرية وتتجاذبها النصوص.

مسألة المعلوم من الدين بالضرورة ليس لها معيار دقيق يمكن أن يتم وزن الأقوال عليها، لذا فإن تصحيح المسار الفكري للتطرف ينهض من خلال تفكيك طلاسم هذه المسألة، وإيضاح أنها لا ترتبط بمسائل التفكير لأنها اجتهادات بشرية ولا عصمة للاجتهادات البشرية.