يقول سارتر في تقديمه لكتاب فرانز فانون (معذبو الأرض): «لما كان لا يستطيع أحد أن يسلب رزق أخيه الإنسان أو أن يستعبده أو أن يقتله إلا ويكـون قد اقترف جريمة فقد أقروا -يقصد المستعمرين- هذا المبدأ: وهو أن المستعمر ليس شبيه الإنسان.

وعهد إلى قواتنا -يقصد القوة الاستعمارية الأوربية- بمهمة تحويل هذا اليقين المجرد إلى واقع. صدر الأمر بخفض سكان البلاد الملحقة إلى مستوى القرود الراقية من أجل تسويغ أن يعاملهم المستوطن معاملته للدواب.

إن العنف الاستعماري لا يريد المحافظة على إخضاع هؤلاء البشر المستعبدين؛ وإنما يحاول أن يجردهم من إنسانيتهم».

كما ينبهنا سارتر إلى اللغة التي يتكلم بها المستعمر عن المستعمر، فهي اللغة المستخدمة في وصف الحيوانات، «إنهم يستخدمون تعابير: زحف العرق الأصفر، أرواث المدينة الأصلية، قطعان الأهالي، تفريخ السكان... إلخ».

والجلاد إذا يرى في (الضحية - الخصم) أذى للبشر لأنه عدو للبشر أو أنه من غير البشر، ولم تكن النظرة العرقية، في البدء، تجعل الجلادين يحسون أنهم يؤذون بشرا، بل هم يخلصون البشرية من أنصاف البشر الضارين (فالنصف الآخـر في كـل مـنهم شرير وحقير وغير إنساني ومؤذ للإنسانية) أو هم يروضون أنصاف البشر، هؤلاء، كما يروضون الجياد والبغال والحمير، لكي يصبحوا صالحين لخدمة «البشر الأسوياء».

وتزداد هذه النظرة إلى الخصم عمقا واتساعا، فلا يكتفي الجلاد، والجلاد هنا ليس فقط ذلك الذي يمارس التعذيب؛ بل هو الذي يقوده ويوجهه، بأن يرى الخصـم حيوانا؛ بل يرى الطرف الآخر كله (القبيلة الأخرى كلها، الحزب الآخر، الشعب الآخر، القومية الأخرى) حيوانات. ومن هذه النظرة الفوقية الاحتقارية للآخرين تتولد نظرية الامتياز العرقي (الامتياز القومي، وشعب الله المختار).

ويجب أن نلاحظ أن الأقليات المنكمشـة. هي أقليات عانت من الاضطهاد، واضطرارها للعيش داخل دائرة الاضطهاد يدفعها إلى نسج نوع مـن الشرنقة حول نفسها لتؤمن الحد الأدنى من الحماية الذاتية مع حفاظها على ملامح الهوية أو التشبث بها، والقدرة على الحفاظ على هذه الملامح، مع قسوة الحياة أو استحالتها، هي التي تجعل أبناء الأقلية المضطهدة يحسون بنوع من الامتياز. كما أن الميادين الاستثنائية المتاحة والتي يسمح لهم بأن ينشطوا ويصرفوا طاقاتهم فيها تجعلهم يتميزون ويبرزون فيها؛ ما يعزز هذا الإحساس بالامتياز.

وبحيث إن النظرة المجملة من قبل أبناء الأقلية لتاريخها يوصلهم إلى نتيجة تتلخص في القدرة الاستثنائية لهذه الفئة، وإلى تصور أن فئة أخرى ما كانـت لتستطيع الصمود أو البقاء أو التماسك لو واجهت الأحوال ذاتها. وحين تتاح الفرصة لهذه الفئة المستضعفة أن تتنفس وتخرج إلى النور، أو أن تسـود وتتسلط، فإنها تريد أن تؤكد هذا الامتياز بحس انتقامي من الآخرين هو نوع من الانتقام من الماضي.

ولكن الإحساس بالاصطفاء والاختيار الإلهي أو التميز العرقي ليس وقفا على الأقليات المضطهدة، فالنازية قامت على الشعور بالتفوق العرقي، وسعت إلى تنقية العرق الآري، وكان من بين إجراءاتها، إضافة إلى الإبادة، محاولة تعقيم الأجناس الأخرى لضمان إنهاء وجودها، وهتلر هو الذي كان يتحدث عن «حيوات غير جديرة بالحياة».

وكلمة (تحسين النسل/ Eugenics) مشتقة من كلمة يونانية تعني «الجيد بالولادة» أو «النبيل بالوراثة».

وتقول النظرية إن الإنسان يمكن أن يتحسن بالتربية والتوليد مثل النبات، وكان داروين من الداعين إلى ذلك، ومثله كان برنارد شو، وكانت النظرة إلى الموضوع على أنه نظرية تقدمية، أو متقدمة، وعلاجية للتطور، ولكن الأمر لا يقف عند النازية.

فقد نشرت الغارديان البريطانية تحقيقا فضائحيا عن هذا الموضوع جاء فيه: «يخطر لنا أن التجارب العلمية التي تجرى على البشر قد توقفت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن هناك الكثير مما لم يتوقف ومما لم يتم الإعلان عنه بعد.

وقد تم مؤخرا اكتشاف أن السويد مثلا -ويضيف التقرير أن الأمر ذاته يحدث في جميع الدول المتقدمة- قد ظلت إلى ما قبل عشرين سنة تجري تجارب تحسين النسل على مواطنيها. ومنذ (1935م) وحتى (1976م) هناك أكثر من (600) ألـف مواطن سويدي جرى تعقيمهم (إصابتهم بالعقم المتعمد) من دون إرادتهم، أو من دون أن يعرفوا بما كان يجري لهم، وهؤلاء -موضوع التعقيم- هم المعوقون جسديا أو عقليا، وغير المرغوب بهم اجتماعيا، والنساء اللواتي لديهن عدد كبير من الأولاد ويعشن حياة «سيئة»، والنساء اللواتي يحسبن غير قادرات على تربية الأولاد، أو غير قادرات على اختيار طريقهن في الحياة بطريقة «صحيحة».

وبين المعقمين غجر ومشردون والذين هم «ليسوا من العرق السويدي الأصيل». ويتساءل الكاتب في «الغارديان»: «بماذا يذكرنا هذا؟» وهو يقصد أن هذا يذكر بما فعله النازيون.

ويضيف ويليم بلاف في (ملحق نيويورك تايمز» الخاص بالكتب أن هذه الإجراءات الهادفة إلى تنقية العرق والتخلص من «الدم الفاسد» ليست وقفا عـلى الـسـويـد بـل هي شائعة في الدول الإسكندنافية كلها وفي سويسرا واليابان وفرنسا، التي تقول إحدى المجلات إن ما يزيد على (15) ألفا تم تعقيمهم فيها.

وفي بريطانيا كانت مسألة تحسين النسل إشكالية مطروحة أيام حرب البوير. وحتى عام (1950م) ظلت بعض الجمعيات البريطانية الخيرية ترسل الأطفـال الفقـراء وغير الشرعيين إلى أستراليا لكي يصبحوا خدمًا، من دون عقـود أو أجور. (وحسب نظريات تحسين النسل فإن أستراليا، التي كانت مأهولة بالأولاد غير الشرعيين وبالمجرمين، يجب ألا تكون إحدى أكثر الدول التزاما بالقانون، وخلال الحرب كان تشرشل يرسل الجنود الأستراليين، وليس البريطانيين، إلى سنغافورة حيث الخطورة أكبر، إن من الممكن التضحية بهم لأنهم ذوو «دم فاسد»).

وفي الولايات المتحدة وخلال عام (1972م) وحده تم تعقيم (16) ألف رجـل وثمانية آلاف امرأة بالقوة. وتصر جمعيات التعقيم الأمريكية على أنه يجب تعقيم (10%) من السكان لكي يتم إنقاذ العرق الأبيض من الاندثار. ولم يلغ قانون التعقيم إلا عام (1973م).

ويجـادل البروفسور توربجورن تانسجو في جامعة ستوكهولم قائلاً: إن التعقيم قد اكتسب السمعة السيئة من تصرفات النازيين، وإنه علينا أن نتحرر مـن كـابوس التجربة النازية والنظر إلى التعقيم بمنظار آخر.

2000*

* كاتب وشاعر ومترجم سوري «1941 - 2004».