ذهبت في أوائل الخمسينيات إلى القاهرة لتلقي التعليم الجامعي فيها. كان مقرراً لي أن ألتحق بكلية الطب. قابلت المسؤول عن القسم الداخلي الذي كان يضم الطلبة السعوديين في القاهرة. قال لي لقد تقرر أن تسكن مع فلان، وهو طالب في كلية الطب وجدت الغرفة مقفلة، رجعت إلى المشرف. وأخبرته عن ذلك تصادف أن كان معه طالب (اتضح فيما بعد أنه طالب في كلية الزراعة) عندما سمع ما قلته، قال للمشرف، إننى يمكن أن أسكن معه، فعلاً حدث ذلك.

وعندما استقر بي المقام في غرفة الزميل ـ التي أصبحت أيضاً غرفتي فيما بعد ـ كان أول كتاب وقعت علیه عینای، کتاباً عن النحل. شدنی اسم المؤلف، خاصة وأنه كان معروفاً لي من قبل كشاعر مـن رواد الشعر العربي الحديث، ورائد أيضاً لجماعة أبوللو المعروفة. كنت إزاء كتاب للدكتور أحمد زكي أبو شادى. وقررت على الفور أن ألتحق بكلية الزراعة، رغم أن الدكتور أحمد زكي أبو شادي، قد هاجر قبل ذلك إلى أمريكا حيث مات فيها.

(بعد سنين من ذلك تصادف أن درست في واشنطن العاصمة الأمريكية لفترة لم تكن قصيرة وتصادف ـ كان ذلك فعلاً مجرد مصادفةـ، أن تعرفت على آنسة عربية هي صفية ابنة الدكتور أحمد زكي أبو شادي، وكان أبو شادي قد انتقل إلى الرفيق الأعلى. وعرفت منها الكثير عن حياة هذا الرجل العظيم، فما أعجب المصادفات).

حسبت لفترة أن الصدفة التي ألحقتني بكلية الزراعة كانت بمثابة الحدث الأرسطي.(سأتحدث عن الحدث الأرسطي بعد قليل) الذي غير مجرى حياتي. ولكن الأمر لم يكن كذلك في نهاية المطاف. صحيح أننى عملت بعد أن تخرجت من كلية الزراعة في القاهرة. وبعد أن أنهيت الدراسات العليا فيها في أمريكا في وزارة الزراعة بالسعودية ولكن ذلك لم يدم سوى ثلاث سنوات. انقطعت بعدها انقطاعاً تاماً عن وزارة الزراعة، وعن عالم الزراعة، ولم تعد تربطني به أية رابطة حتى الآن، وذهبت بي الحياة مذاهب أخرى لا علاقة لها بالزراعة.

وإذن فهذه الصدفة التي تحدثت عنها لم ترتق إلى مرتبة الحدث الأرسطى ولكن ما هو الفرق بن الصدفة وبين الحدث الأرسطى؟ الفرق بين الإثنين هو الفرق بين الكلاسيكية، وبين الحداثة، أو على الأصح بين الكلاسيكية وما بعد الحداثة، أو الفرق أيضاً بين الواقع الذي صورته الدراما الإغريقية، وما بعدها مروراً بالكلاسيكية الجديدة، وانتهاءً بالواقعية، والواقع الذي صوره ميلان كونديرا، وكتاب ما بعد الحداثة. ولن نفهم هذا الفرق إلا إذا قرأنا كتابين، أولهما كتاب البويطيقا لأرسطو، والثاني كتاب مولد الدراما لنيتشة، وعنوانه بالألمانية وسأخرج على قاعدة الترتيب والموالاة، وأبدأ بالكتاب الثاني أي كتاب نيتشة بدلاً من: DIE GEBURT DER TRAGÖDIE الكتاب الأول، أي كتاب أرسطو.

ماذا يقول نيتشة، وما الذي يقرره في هذا الكتاب؟ وهذا يعود بنا إلى ما بدأنا به، أي إلى اللعبة، SPIEL أو PLAY، إلى هيراقليطي، وبارينيديس، أي إلى اللاعقل، أو إلى ما قبل العقلانية، وعلى وجه التحديد إلى ديونيس إله النشوه، والحرية، والفوضى، واللاعقلانية عند الإغريق، أي إلى ما قبل سقراط وأفلاطون، وعصر الدراما، حيث كان الشعر السائد هو الشعر الغنائي المنعتق من كل القيود والسدود، ولكن الحرية لا يمكن أن تنطلق وتنعتق أو قيود أو سدود. وما ينطبق على الحرية ينطبق على الفن أيضـاً (سنجد فيما بعد أن الحداثة، وما بعد الحداثة نقضت هذه الفكرة، ولكنني هنا أستبق الأحداث)، فالفن أيضاً قيود وسدود.

وهنا تدخل أبوللو إله العقل والمنطق، وأيضاً الفنون عند الإغريق وحدث تصادم أو مواجهة بينه وبين ديونيس، والمصادمة، أو المواجهة، ينتج عنها غالب ومغلوب، لأن معنى ذلك انتهاء الكون، ولابد، لكي يستمر الكون إلى أن تؤدي المصادمة إلى مصالحة، وهذا ما حدث. لم يفقد ديونيس مواقعه وحريته، وإنما تخلى عن بعضها، ولم ينتصر أبوللو، ويحقق كل ما كان يريده ولكنه فاز ببعض الغنيمة وهكذا ولدت الدراما. فيها فن وفيها عقل وفيها أيضاً وهذا هو المهم بالنسبة لديونيس لعبة، ولكن الآلهة الإغريقيين بعد ذلك استحوذوا على اللعبة. بحيث أصبح البشر مجرد أحجار أو أدوات لها، ومن يلعبها أو يخرج عليها يكون مصيره، تراجيديا، وهكذا ولدت التراجيديا الإغريقية. والتراجيديا غير الدراما، والدراما تتألف من تراجيديا وكوميديا.

في التراجيديا يسقط البطل، وينفى من المجتمع، أما في الكوميديا ـ كما هو الحال في الأوديسا ولو أنها كوميديا رديئة ـ فإن البطل يثور على المجتمع في البداية، وبخرج عليه، ولكنه في النهاية يثوب إلى رشده ويعود إلى المجتمع، الذي يستقبله بصدر رحب. وهو ما عرف حتى الآن بعودة الابن الضال، أو عودة الكبش المشاكس إلى قطيعه.

1990*

* كاتب وناقد سعودي «1935 - 2015».