حين يصادفك عنوان المسلسل الأمريكي «Mad Men» ستظن للوهلة الأولى أنه يعني «الرجال المجانين»، ولكن كلمة «Mad» في الحقيقة اختصار لاسم «Madison» نسبة لواحد من أهم شوارع مدينة نيويورك وهو شارع ماديسون «Madison Avenue».

شارع ليس مجرد شارع عادي في مانهاتن، إنه بمثابة تمثيل تاريخي لصناعة الإعلانات الأمريكية في حقبة الستينيات الميلادية. وفضلا عن كونه معروفا كمركز تسوق للأثرياء والطبقة المخملية حول العالم ومركز لبيع الأزياء والمجوهرات الثمينة، فإنه كذلك كان مركزا لكثير من وكالات الإعلان المتخصصة في تسويق السلع.

المسلسل يتمركز بكامل حلقاته حول موضوع الإعلانات، فكل شخصياته تعمل في شركة للدعاية والإعلان، وكل حلقة في المسلسل بكل تفاصيله الدقيقة من ملابس وتسريحات شعر وموسيقى خافتة وسيناريو، تعكس تعقيدات وتناقضات الشخصية الإنسانية، وكيف تتأثر بثقافة العصر ممثلة في السوق الاستهلاكية، إنها دراما نفسية حول السوق العريضة وكيف تشكل شخصياتنا وتوجه سلوكنا. الإعلان واحد من أهم الإستراتيجيات تأثيرا في التنشئة بالمجتمع الحديث، فهو يمس الثقافة المجتمعية والسلوك اليومي ويوفر البنية التحتية للاستهلاك الشامل. وهو الشكل الثقافي الوحيد الذي يتعامل مع النزعة الاستهلاكية بشكل مباشر.

يصور المسلسل بشكل غير مباشر أساليب وكالات الإعلان والتقنيات التي يستخدمها محترفو الإعلان للتأثير في المستهلكين، وما يتطلبه ذلك من فهم عميق لشخصية المستهلك وسلوكه وكيف يتفاعل مع الإعلان. فن الإعلان يجعل من الاستهلاك سلوكا طبيعيا ومرغوبا، حتى إن حياتنا اليومية أصبحت تقوم على الاستهلاك. ومكانتنا تتحدد اجتماعيا من خلال ما نستهلكه من السلع. فالإعلان له أثر كبير في ثقافتنا المعاصرة بتكريسه مفهوم الاستهلاك وتطبيعه ونشره على أوسع نطاق، فهو الوسيلة الوحيدة للسعادة المنشودة.

لا يمكن التغاضي عن ظاهرة الإعلان اليوم بوصفه شكلا ثقافيا ومحددا اجتماعيا، قادر أن يؤثر في نمط عيشنا وبوصفه أهم أسلحة الرأسمالية الحديثة نحو تحقيق الأهداف. الرأسمالية نظام يهدف إلى تحقيق الربح من خلال شراء وبيع السلع والخدمات، لذا فإن الإنسان الحديث أصبح محاطا بالإعلان في التلفاز وأجهزة التواصل والشوارع، ففي كل شارع لوحة إعلانية، وكل عمل تلفزيوني يتخلله فاصل إعلاني، وأصبحت وكالات الإعلان تستخدم المشاهير والفنانين لإيصال رسائلها للجمهور.

حياتنا وسلوكنا اليومي وثقافتنا المجتمعية تتأثر بشكل بالغ بالكم الضخم من الإعلانات، ونحن محاطون بها حد الغرق فهي ترى في كل حيز مكاني تقريبا، وكل ما حولنا هو إعلان عن سلعة أو خدمة، فهل نحن اليوم قادرون على العيش دون التأثر بالإعلان، وهل نستطيع بالفعل التحرر من هذا الكم الهائل من الإعلانات؟

كانت فكرة مسلسل «Mad Men» عميقة للغاية، فهو يصور تأثر حياة الأمريكيين بالإعلان، وكيف انعكس ذلك على ثقافتهم الشعبية، وما ينطبق على الشعب الأمريكي ينطبق على بقية شعوب العالم، فالكل أصبح متورطا بعالم الإعلان وانعكاساته على سيكولوجية الأفراد وتأثيره في خياراتنا وقراراتنا التي نتخذها.