يحكى أن رجلين ذهبا من القرية باتجاه المدينة، وبعد عودتهما أحاط بهما القرويون من كل جانب، وأخذ كل واحد منهما على انفراد يحكي لهم بالتفصيل ماذا رأى في المدينة، وبعد أن اجتمع القرويون ليحكوا لبعضهم ما حكاه لهما الرجلان، كانت المفاجأة أن الأول قال إن المدينة أهلها متدينون ويقضون أوقاتهم في المساجد ويحسنون لبعضهم، ويلتزمون بالأخلاق والأدب، وأن الآخر قال لهم إن المدينة مليئة بالفجور والبغاء وأماكن اللهو المليئة بالمحرمات، فذهبوا إلى حكيم القرية ليستفتوه أيهما كان كاذبا، فقال لا أحد، كلاهما يصدقانكما القول، وكل منهما تحدث بما كان يرى، فالأول كان منشغلا بالصلاة والتعبد فلم ير إلا من يقاربه نية، وكذلك الآخر لم ير إلا ما كان في نيته أن يراه.

وهذا ما نشعره من حولنا، فنحن نؤمن جيدا بأن ما تراه أعيننا هو الحقيقة فقط، ونسينا أن عيوننا هذه كانت «مفنجلة» منذ أن كنا في المهود صبيانا، ولم تكن ترينا من الحقيقة التي حولنا شيئا، فلا نتذكر كيف كانت أمهاتنا يحلبن الحليب على أنوفنا، أو كم مرة تلقينا «حبة الخال» التي وشمت وجوهنا، وهذا يعني أن عيونا ترينا ما تفهمه عقولنا، وقد تكون عقولنا هذه مؤدلجة على أمر ما، فنرى كل شيء مما حولنا على مفهومنا الخاص والخاص جدا.

ما أريد قوله إنه لو وقف متهم في قفص الاتهام أمام القضاء العسكري وكان من الحضور مشايخ دين وقانونيون وأطباء نفسيون ومحامون ومحتالون وعمال نظافة للمكان، فكل منهم سينظر من زاويته، فشيخ الدين يرى كم محرما ارتكبه يخالف نص الشريعة، والطبيب النفسي يركز على تصرفات المتهم وحركات أطرافه ورمشات عينيه واتجاه نظراته، بينما القانونيون والمحامون لا ينظرون إلا إلى القانون الذي اخترقه، وكيف لهم أن ينقذوه مما وقع فيه، والمحتالون يرونه محتالا وكاذبا بالطبع، أما عامل النظافة فلا يهمه إلا ألا يكون المتهم مدخنا حتى لا يرمي بقايا السيجارة على الأرض فيعمل إضافيا بعد انتهاء عمل المحكمة.

فما بالك إن كان هذا المتهم هو جندي من جنود العدو لتلك الدولة، فكم من شخص يراه في موطنه أنه بطل حرب وشجاع ومقدام، وهنا ينظر إليه على أنه عدو غاشم مستبيح الدم والأرض، بينما قد يكون ذاهبا لجلب أكل لأطفاله وتم أسره، ولا بطل ولا «بطيخ».

إن ما يدور حولنا هو عبارة عن صورنا الذهنية لما نراه، فإن كانت صورتي الذهنية عن جاري أنه سارق فكل ما يقوم به حتى سقاية بستانه ماهو إلا محاولة منه لمراقبة وقت خروجي من المنزل ليسرق مغارة «علي بابا» التي أدخرها في منزلي، وكل ما يقوم به حتى النوم والذهاب للعمل هو لجمع المال كي يشتري معدات تساعده أثناء سرقته لمنزلي، وما يثبت ذلك أنه آخر مرة رأيته ذاهبا ليصلي الجمعة معي في المسجد كانت (تسريحة شعره تسريحة الحرامي).