كانت أم كلثوم أعظم مغنيات العالم العربي في القرن العشرين وأشهرهن، ولا تزال أسطواناتها وأشرطتها متوفرة في كل مكان على الرغم من مرور خمس عشرة سنة على وفاتها. كما أن جمهوراً واسعاً من غير العـرب قد اطلع على غنـائهـا، وقد تأتى لهم ذلـك بسبب الوقع المخدر والكئيب لغنائها من جهة، ولأنها من جهة ثانية وجه بارز في الحركة العالمية الساعية إلى إعادة اكتشاف فن الشعـوب الأصيل.

لكن أم كلثوم، علاوة على ذلك كله، قد قامت بدور بارز في الحركة النسائية الصاعدة في العالم الثالث، وذلك بوصفها (أي أم كلثوم) «عندليباً تقياً للشرق» شكل ظهوره على الملأ نموذجاً لا للوعي الأنثوي فحسب بل للياقة الاجتماعية كذلك.

ولقد جرى الحديث أثناء حياتها عن احتمال كونها سحاقية، غير أن محض قوة تأديتها للموسيقى الراقية الموضوعة لشعر عربي فصيح قد طغت على مثل تلك الشائعات. وفي مصر، كانت أم كلثوم رمزاً حـظي بالاحترام على امتداد الوطن، سواء أثناء الحكم الملكي أو بعد الثورة التي قادها جمال عبد الناصر. كانت حياة أم كلثوم الفنية فائقة الطول، وكانت عنـد غالبية العرب محط احترام بالغ ممزوج بالشيء الأبرز للعيان من الإثارة التي مثلتها الراقصات الشرقيات.

وكانت الراقصات، شأنهن في ذلك شأن المغنيـة العـظيـمـة نفسها، قد اعتـدن أن يؤدين أدوارهن في الأفلام، وعلى خشبات المسارح، وفي الكاباريهات، وعلى منصات الأعراس، وفي غير ذلك من الاحتفالات الخـاصـة في القـاهـرة والإسكندرية.

وفي حين كان يصعب على المرء أن «يستمتع» حق الاستمتاع بمجرد النظر إلى أم كلثوم المكتنزة الصارمة القسمات فإن تراقصات الدقيقات ـ اللاتي كانت بديعة مصابني (الممثلة، المولودة في لبنان، وصاحبة الكاباريه، ومدربة المواهب الشابة، نجمتهن الأولى) ـ لم يكن ليبعثن في الناظر إلا المتعة الحسية وحدها. لقد انتهت حياة بديعة، راقصة، مع الحرب العالمية الثانية تقريباً.

غير أن وريثتها ومريدتها الحقيقية قد كانت تحية كاريوكا، التي أعتقد أنّها أروع راقصة شرقية في كل الأزمان. وبالرغم من أنها اليـوم قـد صارت في الخامسة والسبعين من عمرها وتعيش في القاهرة، فإنها لا تزال فاعلة، في حقلي التمثيل والتحريض السياسي.

كما أنها تبقى ـ أسوة بأم كلثوم ـ الرمز الملحوظ لثقافة قومية. وكانت أم كلثوم قد غنت في عـرس الملك فاروق عـام 1936وكانت هذه الحفلة الباذخة عينها هي بداية تحية كاريوكا الفنية التي أسبغت عليها شهرة لم تفقدها في يوم من الأيام، ثير تحية الغرائز الحسية، لكنها تبقى نائية يستحيل على المرء نيلها.

لقد جسدت تحية كاريوكا، في أوج أيامها، بوصفها الراقصة الأكثر روعة، نمطاً خاصاً جداً من الإغراء، هو الأشـد سـلاسـة والأقل تصريحاً من بين مجموع الراقصات، وهـو ـ في ميدان الأفلام المصرية ـ نمط شديد الوضوح للمرأة التي تفتك الناس بسحرها.

وحين بحثت عن عدد الأفلام التي مثلت فيها -وتحية بين أوائل الأربعينات وعام 1980 تمكنت من إحصاء مئة وتسعين عنـوانـاً- وعندما سألتها في القاهرة في ربيع 1989 عن العدد الحقيقي لتلك الأفلام عجزت عن التذكر ولكنها عبرت عن اعتقادها بأن مجموعها يتجاوز المئتين بكثير.

ولقد تضمنت معظم أفلامها الأولى رقصة واحدة على الأقل؛ فالحال أن الفيلم المصري الذي لا يزعم انتسابـه إلى «الفن الراقي» ـ وقلة من الأفلام قد زعمت مثل هذا الزعم ـ لا بد أن يحتوي على «نمرة، مؤلفة من أغنية ورقصة.

وكانت هذه صنعة أشبه ما تكون بباليهـات الفصل الثاني من أوبرات باريس القرن التاسع عشر: فقد كانت الباليهات تؤدى في تلك العروض سواء لاءمت القصة أو لم تلائمها. وفي الأفلام المصرية قد يظهر على الشاشة مذيع فجأة فيذكر اسم مغن وراقصة، ثم يكشف المشهد عن نفسه ـ وغالباً ما يتم هذا الكشف من دون أي تسويغ ـ فإذا به ناد ليلي أو غرفة استقبال كبيرة؛ وتشرع الفـرقـة بـالـعـزف، ويبدأ العرض.

لقد قامت «تحية» بمشاهد مماثلة، غير أن هذه المشاهد لم تكن سوی مسودات مختزلة وعديمة الصقل بالمقارنة مع عروضها الكاملة في الكاباريه.

وقد شاهدت واحـداً من هذه العروض، وسوف أتذكره، ما حييت، بوضوح صادم. كان ذلك عام 1950.

فقد اكتشف زميل لي مغامر من زملاء المدرسة أن «تحية» ترقص في «كازينو بديعة» الصيفي الواقع بجانب النيل في حي الجيزة. فاشتريت البطاقات، ووصل أربعة فتيان في الرابعة عشرة من عمرهم إلى السهرة الموعودة قبـل ساعتين على الأقل من الوقت المضروب لابتداء العرض.

وكان ذلك اليوم الحزيراني قد شارف على الذوبان في أمسية عليلة مذروة ببعض الرياح وكان كازينو بديعة قد امتلأ بالحضور حين أطفئت الأنوار استعداداً لبروز النجمة، وإذا بالطاولات التي يربو عـددها على الأربعين قد احتشدت بجمهور جميع أفراده مصريون من أبناء الطبقة الوسطى الغواة. وكان شريك «تحية: في تلك السهرة المغني عبد العزيز محمود، وقد اعتـلى هـذا المغني المسرح وزرع نفسه في كرسي من الخشب والأملود مـوضـوع في منتصف خشبة المسرح القديمة، وراح يغني برفقة «تخت» يجلس أفراده في واحد من جوانب الخشبة كان اسم الأغنية «منديل الحلو»، وتتغنى أبياتها العصية على العد - مرة بعد مرة وطوال ساعة كاملة تقريباً ـ بالمرأة التي هـذلت ذلك المنديل وبكت فيه وزينت شعرها به.

كانت قد مضت على بدء تلك الأغنية خمس عشرة دقيقة على الأقل حين ظهرت «تحية» فجأة على بعد بضع أقدام من عبـد العـزيـز محمود. وكنا نجلس في أكثر المقاعـد بعداً عن خشبة المسرح. ومع ذلك، فإن لباس «تحية» الأزرق اللماع الرفاف قد خطف أبصارنا.

ما ألمع برق ثوبها، وما أضبط ثباتها الدائم إذ تقف هناك وعلى وجهها بسمة كلية الهدوء! إن جوهر فن الرقص العربي - يستوي في ذلك مع فن مصارعة الثيران ـ لا يتمثل في كثرة الحركات التي يقوم بها الفنان بل في قلتها؛ وحدهم الراقصون المبتدئون، أو المقلدون الـيـونـانـيـون والأمريكيون البائسون هم الذين يقـومـون بـالهـزهـزة والنطنطة الفظيعتين اللتين تعتبران «إغراء» رخيصاً وتخلعاً حريمياً ليس إلا.

إن جوهر الرقص العربي يتمثل في إحداث الأثر عن طريق الإيحاء بشكل أساسي (لا حصـري)، وفي القيام بذلك الإحداث على امتداد فصول يترابط واحدهـا بالآخـر من خـلال المواضيع المتكررة والأمزجة المتراوحة؛ وهذا ما فعلته تحية تلك الليلة من خلال عملها المتكامل. لقد كان موضوع «تحية» الأساسي في «منديل الحلو» هو علاقتها بعبد العزيز محمود الغافل عنها إلى حد بعيد، وهي تبدو وكأنها ستخر بين يديه، وهي تقلده وتسخر منـه ـ وإنها لتفعل ذلك كله من غير أن تلمسه أو تستثير رده على الإطلاق!

1990*

* ناقد وأكاديمي فلسطيني / أمريكي «1935 - 2003»