.. ودام عملي في الدكان إلى شهور كنت أشعر أثناءها أنني في حاجة إلى تجديد رأس المال كلما تقدمت الأيام بي، وكنت قد اطلعت في بعض ما أقرأ على نبذة طريفة يصف أحد الأدباء فيها جارا له يحاول التجارة عبثا فقال: (إنه لو تاجر في الزيت لمحا الله آية الليل).

وليس مجهولا أنهم كانوا يستضيئون بالزيت، فلم يستبعد الأديب الظريف أن يمحو الله آية الليل لو تاجر جاره الفاشل في زيت الاستصباح؛ ولا أنكر أنني كنت لا أتذكر هذه الطرفة حتي ينتابني الخوف من أن تأمر الحكومة بمنع تعاطي الشاي إكراما لحظي العاثر في ما أتاجر، ولكن الحكومة كانت أعدل أن تعلن مثل هذه الأوامر؛ ومع ذلك فقد أبى حظي إلا أن يعاكسني في إصرار، وأبت الصدف إلا أن تشاكسني إذ كان موضوع الحظ لا يزيد عن خرافة لا ظل للحقيقة فيها.

وأشرق دكاني في أحد الأيام بإشراقة زميل قديم رأى أن يزورني بعد تباعد طويل؛ وكان في زيارته ما يصح أن أسميه بنقطة التحول. فقد رأى وفاؤه أن ينقذني من حياة التبلبل التي أعيشها إلى حياة أخرى لا أقول إنها كانت سعيدة ولكني أقول إنها كانت خالصة من شوائب القلق رغم ما فيها من إقلال. قال زميلي: ألست من حفاظ القرآن فيما أذكر؟ قلت: وإنني من مجوديه ودارسي أحوال الغنة وأحكام المد فيه.

قال: وما رأيك إذا أضفناك إلى المدرسة التي ندرس فيها، كمعلم للقرآن؟ فأطرقت رأسي في هيئة المفكر الذي لا يريد أن يجازف بترك تجارته الرابحة إلى الوظيفة قبل أن يقلب وجوه الرأي، ويزن الملابسات بأدق ما عرفت به موازين الرأي، ثم اعتدلت وشرعت أطيل النظر إليه في تخابث، وأنا أكاد لفرط سروري أن أنهال على راحته لثما وتقبيلا، ثم قلت: ولكن ألا ترى أن من الغبن أن أطلق حريتي في تجارتي إلى قيود الوظيفة !!

فمازال يقنعني بفساد ما وهمته من قيودها وهو يحسب أنه سيحبب إلي ترك الدكان، وما علم أنني لو حلمت بمن يعرض علي التوظف لغالطت نفسي، وانطلقت على أثر يقظتي من الحلم باحثا عن شخصية من عرض علي التوظف لأرجوه قبولي فيا، حلمت به في منامي ـ ولكنه التخابث، والمجالدة في ضبط العواطف والتجمل بالمراءاة الزائفة.

وقبلتني المدرسة كعضو في هيئتها التعليمية، فبدأت أشعر بالفرق بين حياتي في الحارة والدكان، وبينها في وسط المعلمين الراقي، وبدأت أعاشر صنفا من الناس له قيمته الأدبية وله حظه من التهذيب إذا قيس (بالعيال) من أشقياء الحارة.

على أن رفاقي من هذا الصنف المتعلم لم يكن تعليمه راقيا بالصورة المعروفة في الأوساط العالية، ولم يكن نضجه التربوي قد شارف شيئا ساميا من الكمال.. فقد كنا، أو أكثرنا خريجي كتاتيب عالية، أو مدارس لم تتعد الطور الابتدائي أو المتوسط؛ وكنا إلى جانب ذلك فتيانا لم يطر شارب أكبرنا سنا، جمعتنا مديرية المعارف من زوايا متفرقة لتزود مدارسها الجديدة بما تملك من محصول.. فكان على المدارس أن تعلمنا كيف نعلم أبناءها وأن تعرضنا للتجارب القاسية لتهيئ منا، ومن تلامذتنا جيلا يلم ببعض المعرفة، ويرود طريق النهضة العلمية الجديدة.

كنا نشتعل حماسا لمهامنا في المدرسة، وكانت اليقظة الجديدة في البلاد قد خالطت مشاعرنا، فأصبحنا نؤدي أعمالنا عن عقيدة وإيمان، وكنا إلى جانب هذا مسرورين بالسلطة التي كانت تخولها لنا أوضاع المجتمع في تلك الأيام.. فالطفل في المدرسة خادم أستاذه المطيع، يتلقى أوامره في خشوع، ويمضي إلى مرضاته بنفس الروح الرياضية التي كنا نمضي بها إلى الكتاتيب من قبل!

كانت مواعيد دوامنا في المدرسة لا تحدها ساعات، فقد كنا نصرف تلاميذنا لنبدأ ندواتنا لا في هدوء يليق بوظائفنا ولكن في ضجة صاخبة وسباق في الجري والنط بين غرف المدرسة وإدارتها، وكان يحلو لنا في بعض الأمسيات أن نمتطى صهوات بعض الحمير الفارهة في موكب حاشد... يبدأ خروجه من المدرسة في ضجة لا تليق بمدرسين، ثم ينتهي في وادي الزاهر أو (ريع الكحل)، وأكبر ظني أننا كنا معذورين.. فقد كان أكبرنا سنا لا يتجاوز سن الفتوة اللاعبة؛ وكان سرورنا بفرص اللعب بيننا وإصدار الأوامر على الأطفال وجلدهم لا يقل عن سرورنا بمهامنا التعليمية في المدرسة. وجاء رأي مديرية المعارف وعلى رأسها فضيلة الشيخ عبدالله الزواوي وكيل المديرية أن تستغني عن رئيسنا في الإدارة، وكان شيخا وقورا أرهقه نزقنا، فاختارت أحدنا للإدارة كان يمتاز بوجه صارم لا يستخفه النزق الشائع بيننا، وكان شاربه المفتول يرسم صورته أمامنا کشاب ناضج يستحق التوقير، ولكننا مع هذا لم نتنازل كثيرا عن مباذلنا المضحكة حتى في مجتمعاتنا الرسمية به، ومما أذكره أنني كنت شخصيا أحسد فيه هذا الشارب وأتمنى لو كان لي بعض شعراته لأبرمها كلما استدعى الحال أو أزمت أزمات الجد في مواجهة بعض التلاميذ المناكيد.

كان زميلنا الشيخ عبدالوهاب خياط لا يكبرنا إلا بسنوات لا تكاد تذكر، ولكن كان يمتاز بكثير من الهدوء الذي يرشحه لإدارة فتيان مثلنا استمرؤوا النزق، وقد استطاع أن ينجح ولكن إلى حد كان لا يكفي كل الكفاية لتأمين العمل في جو من الهدوء، الذي كانت ترجوه مديرية المعارف.

وكان الشيخ عبدالوهاب إلى جانب صرامته أنيسا يهوى فن الغناء ويجيد الطرب على العود، وفي سبيل هذا كان ينسى صرامته في كثير من الأحيان ويتودد إلينا ليجمعنا إلى حفل أنيس في بيته يغنينا فيه أشهر (الطقاطيق) والأدوار المصرية التي كانت شائعة في عهدنا، وتنتهي سهرتنا بمائدة حافلة كانت تكاليفها لا تصيب الفرد منا إلا بنحو ثلاثة قروش، وإني لأذكر مرة وكنا منسجمين في إحدى ليالينا الساهرة في بيت الشيخ عبدالوهاب وإذا طارق يطرق الباب علينا، وكانت حفلات الغناء محظورة في مكة بأمر الملك الحسين، فأسرعنا نخفي آلات الطرب حتى إذا مرت ساعة ولم يعاودنا الطرق استأنفنا الغناء، فعاد الطرق بصورة أشد فعَنّ لي أن أسرع إلى أعلى البيت لأشرف على الطارق فما راعني إلا رجل مربوع القامة لا يكاد يطرق الباب حتى ينزوي في ركن خلفه، فكان هذا إيذانا لنا بإلغاء ما نحن فيه واستئناف جلستنا في أحاديث عامة، ودلتنا القرائن فيها بعد على أن طارقنا الليلي كان شخص الحسين بن علي، فقد شاهده نقیب الحارة ليلتها يرود بعض الأزقة بجوار البيت الذي نسهر فيه، وهي أزقة ربما خفيت على عفاريت الأرض لأنها تتفرع من دروب ضيفة كل الضيق في أعالي جبل الهندي، وربما ضاعت مسالكها على أي عابر لا يسكنها لكثرة ملتوياتها.

وأكد لنا هوية طارقنا ليلتئذ أن مديرنا دعا في صباح اليوم الثاني من سهرتنا لمقابلة الحسين في قصره، فلما مثل بين يديه قال له «لقد نمى إلي أن بعضهم يحيي ليالي غناء في بيت بعض جيرتكم فهل لك أن تصدقني»، فلم يحاول الشيخ أن يلف أو يدور بل قالها كلمة صادقة ـ «إنه بيتي.. وأنا الذي أحيي فيه بعض ليالي الغناء في نفر من أساتذة المدرسة بشكل بريء كل البراءة، لا يشوبه حرام ولا يختلط به مشبوه، قنع الحسين بما قال وسرته نبرة الصدق وأخذ ينصحه ليقلع عن مثل هذا.

1982*

** أديب وصحافي سعودي (1905-1984)