أثناء تناولي لكوب الشاهي كعادتي اليومية المفضلة، إذ بأصوات صادرة من الشارع تخترق حوائط المنزل، لجدال تعالت نبرته بين أب وابنه الشاب.

كان يبدو من الجدال أنها عملية طرد أو خروج الغاضب الذي أشبه ما يكون بخروج ألسنة من النيران ترمي ولا تذر بجام غضبها، فتحرق وتلسع وتأخذ في تمددها ما تأخذ.

وفي احتدام هذه الأصوات المتعالية، خرجت كلمات وجمل من الشاب على نحو (لا مال ولا وظيفة ولا زواج ولا حب) بصوت يملأ الفضاء، فيرد عليه الأب بصوت يزلزل المكان:

(إلى متى وأنا أصرف على بني آدم أطول مني)، ولكن عندما وقف الأب على جملة: (حضرتك جالس في البيت تحب وتتمعشق، وأنا أشتغل 8 ساعات في اليوم) ، تفهمت شعور الاثنين والتراشق الكلامي الذي أشبه ما يكون بمباراة (بينج بونج) في دقائقها الأخيرة، حوار المحترق وظيفيًا في ساعات عمل طوال، مع المتكئ ضجرًا وانتظارًا لفرصة وظيفية تحفظ كرامته كإنسان مل من نسج مستقبله كل يوم بخيوط رفيعة من الأوهام.

اختفت الأصوات في دقائق معدودات، وبقي صوت كليهما في ذهني يذهب ويجيء بين فترة وأخرى.

فالاحتراق الوظيفي مع مسؤولية التربية والأسرة مشكلة، والبطالة وضعف الرواتب مشكلة أخرى، خاصة عندما تتنصل منها الأسرة ولا تحتويها بدعم مادي، أو حينما تصب جام غضبها على أبنائها بتحميلهم عبء هذه المشكلة والتعاطي معهم كأنهم أعباء مادية لا بد من التخلص منها، بداية بلومهم على عدم المشاركة والمساندة في دخل الأسرة، أو بالتمنن والتفضل عليهم بما تجود به أيديهم مما يقسمون بين فترة وأخرى، وتأزيم المشكلة أكثر مما تستحق دون إبداء شيء من الحلول بالمساهمة أو بالتفهم على أضعف الأيمان، لا أعني بذلك أن الآباء وحدهم هم أساس المشكلة، مهما تلفظ الأبناء أثناء ذلك التراشق من كلمات مثل (إذا لماذا خلفتونا)..

ولكن على الآباء على الأقل ألا يسلموا مستقبل أبنائهم إلى الصدفة وعلم الغيب وإلى السماء وما تعد، فلربما كان الحظ الذي ينتظره الآباء لمستقبل أبنائهم، لا ينطبق إلا على واحد من أصل خمسة، فإذن ما ذنب أولئك الأربعة وبماذا تعدهم على أرض الواقع ؟!

وهكذا كما يحدث من سوء تخطيط يبدأ من المكون الأساسي في المجتمع وهو (الأسرة)، وفي مثل هذا الموقف يصعب الوقوف على الحياد، بوجود بداية تخطيط سيئ من نموذج يتكرر باستمرار دون نقاش، وتجذير لأصل المشكلة التي لم تحظ إعلاميا كما حظي به «الخلع» من اهتمام، بتحويله لمشكلة وجريمة تستوجب الوعي، وليس حقًا شرعيًا يفترض أن يتم بين اثنين بالغين عاقلين لا يعترف المجتمع بكفاءتهما العقلية، ثم يشجعهما على التناسل دون مسؤولية.

ويهمش المشكلة الأعظم في عدم تناسب دخل رب الأسرة مع احتياجات أفرادها، وما يتحتم عليه من التقنين والتخطيط لإيجاد عدد من الأبناء يتناسب مع هذا الدخل بكرامة واكتفاء.