حظيت المدن الإيطالية كالبندقية وروما وفيرونا وغيرها اهتماما كبيرا لدى الأديب الإنجليزي ويليام شكسبير، فقد كانت هذه المدن مسرحا لثلث أعماله، كروميو وجولييت وعطيل وتاجر البندقية. فما الأهمية الأدبية للمدن الإيطالية بالنسبة لشكسبير، مع أنه لم يزر إيطاليا في حياته. وهل يتضمن اهتمامه بإيطاليا تيارا سياسيا خفيا حتى يتمكن من معالجة موضوعات سياسية حساسة، أو كي ينقل صورة نمطية عن الإيطاليين بوصفهم أفرادا يتسمون بالمكر والخديعة؟ فعلاقة شكسبير بإيطاليا ظلت مثار أسئلة على الدوام.

أعمال شكسبير يضاف لها كثير من أفكار الفلاسفة الأوروبيين في ما يعرف بعصر النهضة وما بعده، كانت متأثرة بالصراع السياسي بين القوميات الأوروبية الناشئة، صراع أخذ هيئة إصلاح ديني وحركات انفصالية شاملة عن روما الإيطالية. كان لفلاسفة التنوير -كما يطلق عليهم- وأدباء عصر النهضة دورا هامشيا في ما يعرف بالإصلاح الديني في أوروبا، مجرد أدوات سياسية ناعمة توجه في حرب سياسية أوروبية شاملة، لهدف الانفصال السياسي والديني عن هيمنة إيطاليا على بقية القوميات الناشئة في أوروبا.

سمعنا كثيرا عن عصور النهضة والإصلاح الديني التي شهدت عملية الفصل المعروفة «فصل الكنيسة عن الدولة» فما حقيقة هذا الفصل؟ وكيف أنجز؟ وهل كان للفلاسفة دور في هذه التحولات؟ أم أن هناك مبالغة لتقدير دور الفلاسفة بصياغة الثقافة والمجتمع في تلك الحقبة؟ وكما ذكرنا آنفا كان دور الفلاسفة هامشيا للغاية، فحركة الإصلاح الديني في أوروبا لم تكن دينية وعقائدية في المقام الأول، وإنما كانت اقتصادية وسياسية. كان لزعماء الدول والتجار والصيارفة الدور الأكبر في عملية الإصلاح الديني والتحولات الفكرية والثقافية.

كنيسة روما في إيطاليا التي تديرها البابوية كان لها تأثير كبير قي بقية القوميات الأوروبية، فالكنيسة الألمانية والكنيسة الإنجليزية تربطهما علاقة تبعية بكنيسة روما، لذا فإن الحركات الانفصالية في مطلع القرن السادس عشر عرفت تاريخيا بحركة الإصلاح الديني، وفي حقيقتها هي انفصال بين كنائس ألمانيا وإنجلترا وفرنسا من جهة، وكنيسة روما من جهة أخرى، إنه فصل الكنيسة عن الكنيسة في حقيقة الأمر، مثل الحركة الانفصالية التي قام بها هنري الثامن حين فصل الكنيسة الإنجليزية عن كنيسة روما الإيطالية وأصبح رئيسا لها بدلا من البابا.

هل كان للفلاسفة تأثير توعوي أو تنويري في هذه العمليات الانفصالية الشاملة؟ بالطبع لا. وغالب قصص التنوير ونضال الفلاسفة ضد قوى الظلام ليست إلا من وحي الخيال.

كان الهدف من الإصلاح الديني سياسي محض لا علاقة مباشرة ومنفردة للفلاسفة به، هذا الإصلاح هدفه التحرر من سلطة روما الأجنبية على إنجلترا وألمانيا وفرنسا وسويسرا وغيرها من الدول الأوروبية.

كان هذا التغيير يشمل أجهزة الكنيسة ومؤسساتها فقد كان للإنجليز كبقية القوميات الأوروبية رغبة في منع التدخل البابوي في بلادهم حيث كانوا ينظرون إلى السلطة البابوية على أنها قوة أجنبية تتدخل في شؤون بلادهم الداخلية. هذه العملية الانفصالية يتبعها بطبيعة الحال إيقاف جميع الواردات وأموال صكوك الغفران التي كانت تذهب إلى كنيسة روما وتحويلها إلى الكنائس الداخلية.

هل يمكن لشخصية بسيطة مثل مارتن لوثر أن يصنع مثل هذه التحولات الكبرى في أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص؟

كانت الكنيسة الألمانية تتبع مباشرة للسلطة البابوية في روما التي كانت تديرها بحزم وبشدة، وهذا من وجه نظر الشعب الألماني يمثل تدخلا أجنبيا في شؤون بلادهم الداخلية.

لم يساهم الفلاسفة في هذه التحولات الكبرى في أوروبا بالشكل الذي يتصوره البعض، وهناك مبالغة في تضخيم أدوارهم الاجتماعية والسياسية وكأنهم هم الذين يديرون المشهد العام ويحركون الرأي العام في أوروبا.

فالنخبة السياسية وطبقة التجار يعود لهما الدور الأكبر في عمليات التحرير الفكري وتدشين ما يعرف بالحداثة الغربية.