كنتُ مغرمًا جدًا بكتب الإمام الشاطبي وخصوصًا كتاب الموافقات وحديثه عن المقاصد التشريعية التي بُنيت أسس وأركان الأديان عليها، وكنتُ أربط بين كثير من العلماء المقاصديين الذين يهتمون بالمقاصد في المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء والأصوليين، ومنهم على سبيل المثال الإمام الجويني وحجة الإسلام الغزالي والأصولي الحنبلي الطوفي، ومن المتأخرين كثيرًا من علماء الأزهر، بيد أن أخصهم الذي أثر في رؤيتي للمقاصد هو عبدالمتعال الصعيدي واجتهاداته التي كانت تتأسس على مقاصد التشريع.

والمقاصد علم جليل عظيم القدر غزير الفائدة وكثير النفع، وهو غاية الغايات من إنزال الكتب السماوية وفرض الشرائع الربانية، وهو علم يكاد يكون مفقودًا تمامًا خلال فترة من الفترات في حياة مجتمعنا، وإن الحاجة لهذا العلم كانت قصوى بل كنا في أشد الحاجة إلى اللجوء لهذا العلم كي تستقيم الحياة المعاصرة.

وهذه المقاصد هي العمق الحقيقي لفهم التشريع السماوي والرابطة الحقيقية بين خالق ومكون هذه الدنيا وموجد كل شيء دون حصر أو استثناء أو تقييد، وبين هذا المخلوق الذي اختاره مولاه ومصوره ومحدثه، وهو هذا الإنسان الذي وهبه ربه شيئًا مميزًا دون باقي المخلوقات، وهذا الشيء هو العقل المميز بين الأشياء والإدراك والوعي لتصور الأشياء والأحداث كي يفهمها ويتخذ من مفاهيمه وتصوراته، المواقف التي تملأ الأحداث بها في مجريات هذه الدنيا.

وهذا الإنسان جعله المولى لأن يكون هو محور قصة حقيقية وواقعية، تكون حكاياتها من خلال المرسلين والأنبياء، ويحمل المرسلون والأنبياء نورًا ووحيًا متصلًا بموجد ومكون الأحداث.

وهذا طريق جعله الخالق للمنافسة بين هذه العقول كي تميز وتفرز المكون الصحيح وتطرح المكون الخاطئ والضار بعالم هذا الإنسان.

وتلك الرسالات كانت خاتمتها الدين الإسلامي، وفيه وضع الحاكم والمنزل لهذه التشريعات نورًا كي يُضيء طرق ومسارات هذا الإنسان المتبع لهذا الدين، وذلك النور كان شيئًا كثيرًا منه قد تضمنته المقاصد التشريعية، فتلك المقاصد هي المراد الحقيقي من كل تلك التشريعات، فتأسست مقاصد التشريع على أشياء منها الكليات الخمس، وهي حفظ النفس والمال العرض (النسل) والدين والعقل. وكذلك تأسست مقاصد التشريع على نفي الضرر ورفعه وقطعه، وعلى العلل الجزئية للأحكام الفقهية. وكذلك تأسست على مطلق المصلحة سواء أكانت هذه المصلحة جلبًا لمنفعة أم درءًا لمفسدة، فكل الأحكام التشريعية تدور حول هذه المقاصد التشريعية سواءً بطريق مباشر أو غير مباشر. إلا أن الأصوليين والفقهاء درجوا على أن مقاصد الشريعة، هي الحكم التي من أجل تحقيقها ولإبرازها في الوجود خلق الله تعالى الخلق. وبعث الرسل، وأنزل الشرائع وكلف العقلاء بالعمل أو الترك، كما يُراد بها مصالح المكلفين العاجلة والآجلة التي شرعت الأحكام مِن أجلِ تحقيقها، فهناك كثير من القضايا التي دارت عليها خلافات كثيرة بين فريقين أحدهما عالم واعٍ ومدرك لمقاصد التشريع وأثرها في حياتنا المعاصرة، والآخر متشدد لم يع مجريات العصر ولم يدرك الظروف المحيطة ببني البشر، فأخذ يُلقى أحكام التحريم، ويطلق ألفاظ الفساد على كثير من التصرفات والتعاملات التي لا تكاد تُفارق أي مؤسسة مصرفية أو مالية وهي تتعامل مع ملايين البشر في مجتمعاتنا، بل كانت أحكام التحريم تناهل على المريدين في جميع تعاملاتهم المصرفية والمدنية، فكان الحرج والضيق يجعل المرء في هذه المجتمعات يعيش حياة ضنك لا يكاد ينجو من لهيب سطوة ذلك المسار التحريمي الذي وضع أركانه في جذور المجتمع آنذاك، ولما يزال منه بقية باقية!!.

كان العلماء يدركون مقاصد التشريع وأهميتها، وأن هذا العصر الجديد الذي نعيشه لا يمكن السير فيه وإكمال مسيرة الحياة، وتنفسها على ما أراده الخالق إلا باللجوء إلى مقاصد التشريع وجعل كل مسارات وأسس وأركان هذه المقاصد هي العاملة والفاعلة في مجريات الأحداث، وهي الحاكمة على مطلق التصرفات.

ومن هؤلاء العلماء عبد المتعال الصعيدي، فلقد خاض في لجج هذا البحر وأبرز كثيرًا من الآراء التقدمية التي تدل دلالة واضحة على أن هذا العالم الجليل قد أدرك حقيقة المعنى الحقيقي من التشريعات الإسلامية والأحكام الفقهية. فلقد بين ووضح رأيه في الحدود الشرعية، وأن تلك الحدود تحتاج إلى إعادة نظر ودراسة ودراية حقيقية وفهم لتلك النصوص الواردة فيها، وذلك كي تتفق تلك الأحكام الواردة في الحدود الشرعية مع مقاصد التشريع.

وطرح الصعيدي تساؤلات مهمة جدًا حيال حد السرقة وحد الرجم، وبين ما فيهما من إشكاليات تحتاج إلى إعادة نظر وتأمل، فتلك التشريعات بحاجة إلى رؤية واضحة وتمحيص حقيقي للمراد منها، وفهم حقيقة المقصد الشرعي من تلك الأحكام الفقهية الجزئية.

كذلك أفاض العلامة عبدالمتعال الصعيدي في مسألة قتل المرتد، وماهية مفهوم الردة عن الدين، ولماذا يُقتل المرتد، وكيف السبيل للخروج من قوله تعالى (لكم دينكم ولي دين)، وقوله تعالى (لا إكراه في الدين). فهناك كثير من التشريعات تحتاج إلى اجتهاد جريء معاصر يجعلها تتوافق مع مقاصد التشريع، ولا تظهر الدين الإسلامي الذي ختم به الخالق جميع الديانات بمظهر غير لائق عندما لا يمكن التعامل مع بعض المظاهر والاتهامات التي تُكال لهذا الدين، مثل تهمة الظلم والجور بقطع يد السارق أو رجم الزاني والزانية، فهذه أحكام قد جرى فيها الخلاف والأقوال فيها، والتأويلات قوية وجديرة بالاحترام.

ومقاصد التشريع هي الركن الأساس الذي يركن إليه من يؤول هذه الأحكام، ويجعلها حرية بالتروي في تنزيلها بعصر تغيرت فيه كل المفاهيم والتصورات. فلا بد من رؤية معاصرة تتوافق وروح التشريع، وتتسق مع منظومة التشريع المقاصدية التي أرادها خالق هذا الكون. فمن ينزع إلى اللجوء والتمسك بمقاصد التشريع هو الأوفر حظًا بأن يلتقي مع المراد الرباني من خلق هذا الكون.

لذا فإن غلق باب النزوع لمقاصد التشريع، هو حرمان للإنسانية من رحمة رب العالمين التي أنزلها على عباده، وهي طمس للحقيقة المعنوية لعمق مفهوم الإسلام.