ظهر لي أن هناك من فهم مقال على حلقتين (بين إسلام العرب وإسلام العجم) فهماً عنصرياً يعيدنا إلى ما ينفيه (الإسلام) عن نفسه (لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى)، بينما المقصود ليس الإسلام بصفته (دين)، بل الإسلام بصفته حضارة عربية استمرت ستة قرون كأقصى حد، مقابل هيمنة أعجمية اعتمدت الإسلام بلغته العربية للسيطرة السياسية الأعجمية على العرب طيلة ثمانية قرون لم ينقصها (لتكتمل مهزلة التاريخ) إلا أن يدخل نابليون في الإسلام، ويتكلم العربية ليمرر تأويلاته الفرانكفونية، ولو فعلها الفرنسيون في الجزائر لكان تأثيرهم أعمق وأخطر من صلف الفرنسة.

وهنا نجد (المزيج الثقافي) للدين بصفته (وحي) قابل للتأويل، وقد تم تأويله عبر العصور، ومثال ذلك: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، فالمقصود التاريخي في الآية هم أهل الكتاب والخطاب موجه لمنكري نبوة النبي من العرب، وقد استحال المعنى مع القرون ليصبح المقصود (رجال الدين في الإسلام)، ومثلها (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون..) الآية؛ لتنتقل من معناها، وما فيه من (وعيد) لمن تخلفوا عن الجهاد، إلى (وعد) لكل العاملين بالخير، فلم يبق في (الوحي) دلالة تاريخية ثابتة كما هي باستثناء (دلالات القيم الكبرى في العدل والإحسان والرحمة)، حتى دلالة التوحيد يمكن أن يخرجها البعض من إطار سورة الإخلاص إلى تأويلات في الربوبية والألوهية لاتهام مليار مسلم بالشرك، دون أن يرف لهم جفن.

بالنسبة لكاتب المقال فلا يمكن أن يتلبس المعنى العنصري لأسباب واقعية ليس أقلها أن إحدى قريباته قد تجاوزت الخمسين من العمر، وهي (أعجمية النسب من جهة الأم وأعجمية اللسان، ومسيحية الديانة وروسية الجنسية)، فحالة (التعددية) يعيشها الكاتب كجزء من (واقعه الأسري)، فكيف وقد عاش من خلال (النقد الذاتي) تحولات الجراءة على استخدام عقله ليعلم بداهةً أن أجداده (قبل البعثة النبوية) كأجداد كل الناس، إما وثنيون أو يهود أو نصارى، ولم يكونوا قطعاً يتكلمون العربية (بشكلها الحالي)، فالعربية مولود صغير السن بجوار اللغات السامية القديمة.

وقد استطاع الانتقال من (عقل القرية) إلى (عقل المدينة)، ومن (عقل القبيلة) إلى (عقل الدولة)، ولهذا كتب قبل بضع سنوات لأقاربه وبعض أبناء قبيلته حاكياً عن نفسه ما يخلصهم من ورطة التعامل مع ابنهم (إمثقف/المثقف)، الذي لم يستفيدوا منه حتى في (المناكفات المضمرة) بين (الجغرافيا الثقافوية/ أبها ورجال ألمع)، التي تشبه ربما مناكفات بريدة وعنيزة، طبعاً رجال ألمع/عنيزة لمن أراد المقاربة وأبها/بريدة، فكتب ما نصه: (لم يعد من رجال القبيلة، سافر بعيداً بعقله وقلبه، لقد خرج «من» القبيلة كمثقف، ولم يخرج «على» القبيلة كصعلوك، قرر أن يعيش حراً بلا أجداد يثقلونه بأمجادهم التي تعنيهم ولا تعنيه، ولهذا فقد ترك اسم جده صدقة جارية لمن لا جدَّ له)، بكل ما في كلمة (جد) من تعدد قراءات وتأويلات، ولهذا كان الكاتب (من) أقل الناس تناقضاً بين ما يكتبه وما يعيشه، فلم يستطع الكاتب أن يتحدث مثلاً عن (حقوق المرأة)، وهو يشعر أن (زوجته سميرة وابنته سارة) ضمن مفهوم (الحريم العصملي)، وقد عاش شبه منبوذ بسبب ذلك، ثم جاءت (الإرادة السياسية) في تحويل أحلام وأماني (أجيال المستضعفين من النخبة المثقفة)، إلى واقع (حضاري طبيعي للمرأة والرجل) تعثر به كثير من الأشخاص الذين عاشوا لعقود بغرائز (ذكورية) (ضد المرأة)، عاجزين عن امتلاك رشد (الرجولة) (مع المرأة)، وها هم الآن نراهم وقد بدأوا يتعلمون المشي بجوار زوجاتهم (بلا خجل)، لكنهم في مشيهم يضلعون، ولا بأس ليأخذوا وقتهم في استعادة رجولتهم الدائمة التي ضحوا بها في سبيل (فحولتهم) المؤقتة فكما قيل: (الفحولة تموت، ولكن الرجولة لا تموت).

وقد يتساءل قارئ عن (عقل القرية وعقل المدينة) و(عقل القبيلة وعقل الدولة)، فنقول: كل أبناء البوادي والقرى الذين انتقلوا من بواديهم وقراهم إلى المدن امتلكوا (عقل المدينة)، فهذا أمر سهل تستطيعه الثدييات العليا بسرعة، وأقصد به معرفة الاتجاهات وضروريات الحياة التي يعرفها ويحتاجها (قط) من (قطط الحارة) في أي حي من أحياء (مدينة)، لكن الصعب والذي يعجز عنه الكثير جداً من أبناء القرى والبوادي هو التخلص من (عقل القبيلة) والانتماء إلى (عقل الدولة)، رغم أن مفهوم (الدولة) مرتبط ارتباطا جذريا بمفهوم (المدينة)، فأي (مدينة) في العالم مجرد جسد وروحه (الدولة)، ولأن (المدينة) مجرد جسد فمن السهل على (عقل القبيلة) أن يلبس (ثيابها)، لكن الصعوبة الحقيقية أن يتلبس (روحها) ممثلة في (الدولة)، وأقرب مثال يوصل المعنى يكمن في الحرص على (المال العام) ممثلاً في (نظافة اليد) من الرشوة إلى (نظافة الشارع والحديقة) من القاذورات (معلومة أتمنى من القانونيين في وسائل التواصل إيضاحها للناس: نظام الرشوة يعتبر الواسطة في كثير من أشكالها جريمة رشوة).

عقل القبيلة ليس فيه (فرد)، بل فيه (جماعة) ضابطها (مفهوم العصبة)، وعقل الدولة ليس فيه (جماعة)، بل فيه (مجتمع) ضابطه (مفهوم المواطنة)، (الدولة) معنى واسع للحياة تعجز عنه (القبيلة/الطائفة) مهما اتسعت، ولهذا فالانتماء إلى (الدولة) ليس مجرد انتماء إلى (وظيفة أو مهنة)، بقدر ما هو انتماء إلى (نمط حضاري أعلى) لا يستطيع من عرفه وذاق (حلاوته الحضارية) التنازل عنه لأي معنى يعيده إلى مربع (البداوة والريف)، باستثناء (البداوة والريف كترفيه وسياحة ليوم أو بعض يوم نهاية الأسبوع).

تنقل كاتب المقال منذ ميلاده في الشمال (مدينة تبوك) ثم (خميس مشيط) ثم (العاصمة الرياض) ثم (الغربية/جدة) ثم (الشرقية/الخبر)، ثم عاد إلى (أبها)، ليرتب انتقاله شيئاً فشيئاً إلى (مدينة جدة).

كان في تنقله (داخل وطنه) يدرك أن السر الحقيقي في تحصيل فائدة السفر لا يكون لكل الناس مهما ابتعدوا في سفرهم، ولهذا مثلاً عاد الكثيرون من سفرهم للتجارة أو الدراسة أو السياحة إلى دول العالم، كما كانوا في أول أمرهم إلا من بعض (الإكسسوارات الثقافية)، لأن (المتعة التي جنوها من السفر والترحال لم تكن مصقولة بما يكفي، كان لديهم اهتمام قليل وضعيف بالعمارة والفن، ولم يكونوا فضوليين لمعرفة نماذج الحياة في الحضارات المختلفة، كان السفر بالنسبة لهم طريقة ممتعة لقتل الوقت ولإرضاء الطموح الشبابي لقروي سابق)، نقلاً بتصرف عن تشيسواف ميووش في كتابه (العقل المعتقل)، يصف أحد رفاقه (النفعيين) الذين حققوا نجاحات تعتمد على (الانتهازية في جميع أشكالها)، أكثر مما تعتمد على المعرفة والوعي بقيم الحق والخير والجمال.

وفي المقال القادم تفصيل ربما يساعدنا للانتقال إلى تفكيك إشكالية (العقل العربي الحافظ) أمام (العقل العربي الفاهم)، وكيف أن الإسلام الأعجمي صارع مع (العقل العربي الحافظ) ضد (العقل العربي الفاهم)، ثم انقلب على (العقل العربي الحافظ) بسرديته الخاصة التي اعتمدناها كمرجع ديني حتى يومنا هذا.