وقد وجدت هذه العنصرية البيولوجية شاعرها في شخص الكونت غوبينو الذي سيغدو كتابه الصادر عام 1853 عن «تفاوت الأجناس البشرية» الإنجيل الثاني للنازيين بعد «كفاحي» لهتلر. فقد تغنى هذا الديبلوماسي الفرنسي، الذي قضى شطرًا من عمره في طهران، بممثلي العرق الآري الأبيض بوصفه العرق القيم على «أعظم وأنبل وأخصب ما في الأرض» والمختص دون ما عداه بإنتاج «العلم والفن والحضارة» والذي ينهض جمال مظهره الجسماني، «الجامع بين الدقة في تناسق الأعضاء والانتظام في تقاطيع الوجه»، دليلًا قاطعًا على سمو الرسالة الحضارية المناطة به دون غيره من العروق المنحطة والبشعة معًا.
وبديهي أن التنظير «العلمي» للعنصرية، الذي أصاب تقدمًا مرموقًا في النصف الأول من القرن العشرين من جراء تشجيع النازيين لمباحث علم الوراثة، لا يجوز أن يحجب عن الوعي وظيفته الرئيسية التي هي وظيفة عملية: فتوكيد التفاوت الطبيعي بين البشر بحكم انتمائهم إلى عروض متفاوتة في القدرة على العطاء الحضاري إنما يستهدف، أولًا وأخيرًا، إباحة معاملتهم بكيفية متفاوتة. فتفاوت البشر هو بمثابة تكريس اللامساواة بينهم.
ودعاة العنصرية يجدون في اللغة نفسها عونًا لهم على ذلك: ففي اللغات اللاتينية الأصل، يشار إلى التفاوت واللامساواة بكلمة واحدة هي: INEGALITE.
ولئن طويت اليوم بصفة نهائية صفحة الإيديولوجيا العرقية المعلنة، سواء بطبعتها النازية أو الكولونيالية أو الاسترقاقية، فإن العنصرية تعاود، كالعنقاء، ولادتها تحت شكل جديد واسم جديد. فبدلًا من التفاوت في الجنس والتفاوت في الدم، يطرح اليوم شعار التفاوت في الثقافات.
فالعنصرية الإيديولوجية الجديدة هي عنصرية عابدة للهويات وللخصوصيات الثقافية. وباسم الحق في التنوع والاختلاف تنكر وحدة الجنس البشري وتؤسس الفروق والتنوعات الثقافية في مطلقات متجوهرة على ذاتها وغير قابلة للتواصل والتمازج فيما بينها.
وأكثر ما يميز هذه العنصرية الثقافية أنها لم تعد مقصورة على عالم الرجل الأبيض. فالنزعات الخصوصية الثقافية في الأوساط السوداء و«الملون» في أمريكا والأصوليات على أنواعها في العالم الثالث تصدر جميعها عن نفس الخوف المرضي الذي كان وراء مولد العنصرية في مجتمعات الحداثة الغربية: إنه رهاب الاختلاط.
1997*
* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016».