في سياق التضامن المحتوم، وأن غير الإرادي دومًا، بين الممارسة والنظرية، رأت النور في منتصف القرن الثامن عشر المحاولات الأولى لتصنيف «علمي» لأجناس البشر، فعالم الطبيعيات والنباتيات المشهور كارل فون لينه هو أول من قسم البشر في كتابه «نظام الطبيعة» الصادر عام 1735 إلى أجناس أربعة تبعًا للون: الإنسان الأوروبي الأبيض والإنسان الأمريكي الأحمر والإنسان الآسيوي الأصفر والإنسان الإفريقي الأسود. وبالتضامن أيضًا مع الاتهامات التي أطلقها المعمرون والمبشرون الأوروبيون وأنصار نظام الرق ضد العرق الأسود، عمم علماء الطبيعيات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من أمثال لويس أغاسيز وكارل فوغت تهمة «الكسل» و«الخمول» و«المكر» الطبيعي على الزنوج انطلاقًا من رصد ووصف موضوعي مزعوم للظاهرات البشرية، دون أن يدور لهم في خلد أن هذه الصفات ليست ثوابت طبيعية بقدر ما هي آليات دفاع ومقاومة من قبل العبيد السود ضد نظام استغلالهم المفرط في المجتمعات الاسترقاقية. وقد حاول بعض علماء الطبيعيات، ومنهم الهولندي كامبر والإنكليزي وايت، أن يوجدوا أساسًا تشريحيًا للتصنيف الهرمي والتفاضلي لأجناس البشر، فاخترعوا ما يسمى بنظرية «زاوية الرأس». وبموجب هذه النظرية فإن الإنسان الأبيض بقحفه المستدير هو مثال الجمال والذكاء، على حين أن الإنسان الأسود بقحفه المتطاول وفكيه الناتئين أقرب إلى جنس القرود منه إلى جنس البشر.

وقد وجدت هذه العنصرية البيولوجية شاعرها في شخص الكونت غوبينو الذي سيغدو كتابه الصادر عام 1853 عن «تفاوت الأجناس البشرية» الإنجيل الثاني للنازيين بعد «كفاحي» لهتلر. فقد تغنى هذا الديبلوماسي الفرنسي، الذي قضى شطرًا من عمره في طهران، بممثلي العرق الآري الأبيض بوصفه العرق القيم على «أعظم وأنبل وأخصب ما في الأرض» والمختص دون ما عداه بإنتاج «العلم والفن والحضارة» والذي ينهض جمال مظهره الجسماني، «الجامع بين الدقة في تناسق الأعضاء والانتظام في تقاطيع الوجه»، دليلًا قاطعًا على سمو الرسالة الحضارية المناطة به دون غيره من العروق المنحطة والبشعة معًا.

وبديهي أن التنظير «العلمي» للعنصرية، الذي أصاب تقدمًا مرموقًا في النصف الأول من القرن العشرين من جراء تشجيع النازيين لمباحث علم الوراثة، لا يجوز أن يحجب عن الوعي وظيفته الرئيسية التي هي وظيفة عملية: فتوكيد التفاوت الطبيعي بين البشر بحكم انتمائهم إلى عروض متفاوتة في القدرة على العطاء الحضاري إنما يستهدف، أولًا وأخيرًا، إباحة معاملتهم بكيفية متفاوتة. فتفاوت البشر هو بمثابة تكريس اللامساواة بينهم.


ودعاة العنصرية يجدون في اللغة نفسها عونًا لهم على ذلك: ففي اللغات اللاتينية الأصل، يشار إلى التفاوت واللامساواة بكلمة واحدة هي: INEGALITE.

ولئن طويت اليوم بصفة نهائية صفحة الإيديولوجيا العرقية المعلنة، سواء بطبعتها النازية أو الكولونيالية أو الاسترقاقية، فإن العنصرية تعاود، كالعنقاء، ولادتها تحت شكل جديد واسم جديد. فبدلًا من التفاوت في الجنس والتفاوت في الدم، يطرح اليوم شعار التفاوت في الثقافات.

فالعنصرية الإيديولوجية الجديدة هي عنصرية عابدة للهويات وللخصوصيات الثقافية. وباسم الحق في التنوع والاختلاف تنكر وحدة الجنس البشري وتؤسس الفروق والتنوعات الثقافية في مطلقات متجوهرة على ذاتها وغير قابلة للتواصل والتمازج فيما بينها.

وأكثر ما يميز هذه العنصرية الثقافية أنها لم تعد مقصورة على عالم الرجل الأبيض. فالنزعات الخصوصية الثقافية في الأوساط السوداء و«الملون» في أمريكا والأصوليات على أنواعها في العالم الثالث تصدر جميعها عن نفس الخوف المرضي الذي كان وراء مولد العنصرية في مجتمعات الحداثة الغربية: إنه رهاب الاختلاط.

1997*

* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016».