الطفولة تستفز ذكريات الزمان، وتكون في الأدب مصدرًا يغذي النص بروح البراءة، فهي كالخيمة يستظل بها الأديب عند تقلبات الدهر بفعل الواقع الملوث بروح الشر، وما نلفت نظر القارئ إليه وهو أن هناك أعمالاً عالمية كانت ثمرتها الطفولة، أطفال ديكنز (اوليفر تويست) وديفيد كوبر فيلد، وبطل رواية البؤساء لفيكتور هيجو.

وفي هذا الصدد يقول دستوفسكي «أقوى الذكريات وأشهرها تكاد تكون دومًا ذكريات الطفولة».. فهل هي -الطفولة- تمدُّ الشّاعرُ بالإلهام؟ أم لحظة هروب من الزمن الحاضر؟ أم الحرمان منها في مرحلة تكوين الذات يستفز الشاعر لإعادة إحيائها؟ تساؤلات متعددة يمكن أن نجد إجابتها في ديوان (شياطين طفل الستين) للشاعر عبدالرزاق الربيعي الصادر حديثًا عن الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء.. عنوان الديوان هو العتبة الأولى التي يضعنا الشاعر عندها؛ لما تحمله من ثنائيات متضادة في معناها (شياطين طفل الستين)، فنجد ثيمة (الشر والخير) (الخطئية والبراءة) (الماضي والحاضر) تلقبات الزمن.

وهذا الأخير هو العامل المستفز لذاكرة الشاعرة، التي جنحت إلى بخيال مستعينة بأحداث لها وقع في ذات الشاعر، والشياطين هي الخطيئة التي تلاحقُ الإنسان الذي خُلقَ على أرضٍ صارت تشتعل كلما تكاثر البشر فيها، فقصيدة عطش، يتحرر الشاعر فيها من خطاياه فيقول: روحي إذا ما عطشت

تشرب من كفي

وإن طويتُ قامتي

يسندني كتفي

حقيبتي رفيقتي

ومؤنسي حيفي

ويختم القصيدة: صليّت أدعو خالقي

وقبلتي خلفي

الوقت شن حربه

وزمجرتْ طفّي

شبعتُ من نصاله

بين عذاب الذات ووحشتها، ولوعة اغترابها وغربتها تتطهر روح الشاعر بما تقاسيه من ألم وعذابات في محاولة للتخلص من خطايا الشياطين وتعود بثياب النقاء، والشاعر تخلى عن الصحبة واختار العزلة وتنقلاتها فتظهر في النصّ حركة المكان، واللاستقرار (حقيبتي رفيقتي ومؤنسي) فهي تدلل على عدم ثبوت، وتكشف عن القلق الذي تعيشه الذات، وفي محاولة لاستعادة الطفولة يكتب قصيدة (كراسة رسم) فيقول:

على جبل من بياض

رأيت جناح الظهيرة

يسقط من سلم الريح

يغرق

في موجةٍ من بياض

فيشرق في صفحة الماء

عنوان القصيدة عتبة أخرى للدخول في عالم الشاعر فكراسة الرسم من مقتنيات الطفولة والمدرسة، حين يخربش الطفل ويلون صفحات مستقبله، فالشاعر يلعب على أوتار الزمن منذ بداية القصيدة يضعنا في لحظة الحاضر (على جبل من بياض)، فما هو إلا جملة استعارية عن اجتياح الشيب وتقدم العمر، فيبدأ بإعادة الزمن إلى الماضي (جناح الظهيرة)، وهي استعارة عن الشباب، وقوته ونشوته التي لم تلبث إلا وانتهت عند موجة البياض.

ومن المفارقات أن الكبيرة هي قصيدة (طفل الستين) العنوان أيضًا عتبة نصية فهو يحمل ثنائية متضادة في المعنى، فالطفل يعني (صغر العمر) والستين تعني (الكهولة)، فعبّر عن العمر بالطفل، وعن الكهولة بلفظ الستين والرقم هنا كأنَّه يرى أن هذه الستين التي مضت ما هي أرقام في صفحات الحياة، والحياة بالمعنى الحقيقي عنده تكمنُ في الطفولة، وفي القصيدة جعل صوت الأنثى محفزًا للبوح الذاتي، فيقول: عادتْ تسألني عنّي

وفصيلة جرحي

عن سنّي

فأجبتْ: برغم الأخطاء البيض

المنثورة في الفودين

ورغم الستين

أظل برحم الأرض جنين

النص يشير إلى محطة جديدة من رحلة الشاعر، ومعاناته مع الزمن، فوصل إلى الستين، وهذه الأخيرة هي من أحيت فيه وعي الطفولة فرأى نفسه ما زال جنينًا، وهذه الرؤية تعود بنا إلى ما قاله نيتشه «ففي كل رجل حقيقي يتحجب طفل يتوق إلى اللعب».

النفسُ الإنسانية على الرغم من شرورها، لكنها ميالة دومًا إلى اعتناق العفاف، ويتمثل في استعادة الطفولة، وهذا يظهر مهما تكاثرت خصال الشر نجد فيها بعض الخير.

الربيعي في قصائده وضعنا أمام تساؤلات، هل الطفولة في القصيدة تأتي بسبب حنين الشاعر إليها؟ أم مصدرا للإلهام؟ أم مرحلة الوعي الكبرى التي تدخل من باب عبقرية الشاعر، كما قال بودلير «العبقرية هي الطفولة المستعادة قصدًا».

في رأينا أن وحي الطفولة يمد الشاعر بنور الإلهام، لأنها أهمّ محطات الحياة، وهي التي تبقى عالقة في الذاكرة، (شياطين طفل الستين) ديوانٌ يزهر بكل تجليات الزمان، وتنقلات المكان التي يخرجها الشاعر من وحي الذاكرة ويطلقها في رحاب المستقبل، لتظل القصيدة خالدة لأنها عبرت حدود المرحلة.

* ناقدة عراقية.