حينما انتقل إلى العاصمة ليحترف الغناء، بدأ التعامل مع الأشكال الغنائية المستحدثة كالدور والطقطوقة والمونولوج والموشحة.

صوت محمد عبدالمطلب في قامة النخيل، وسموق المآذن القوة أساس في تكوينه، فهو جارم الأوتار والملامح كعود زاهر نبت في أرض طيبة قوة صوته نابعة من تكوينه البيئي، والفني، والزمني. فقد ولد ونشأ في بلدة شبراخيت بمحافظة البحيرة، وهي بلدة بين القرية والمدينة إلى القرية أقرب. في مثل هذه البيئة تكون جهارة الصوت ميراثا بيئيا ضروريا تنص عليه طبيعة القوم في جينات الوراثة. الفلاح في الحقل صوته عريض قوي لكي يصل إلى أبعد الأماد إذا نادي أو استغاث أو خاطب أحدا على بعد، الجالس في المندرة بين الرجال صوته لا بد أن يكون قويا حين يخاطب الرجال أو يرد عليهم، العراك يتم بأعلى صوت، ولعلها خصيصة إنسانية مصرية أصيلة إذ ما يكاد الخلاف يدب بين متخاصمين حتى ترتفع الأصوات في الحال بالجعير والصياح، منه تعبير عن الغضب، وإرهاب الخصم، ومنه إعلان عن بداية المعركة حتي يلحق بهما القوم لفض الاشتباك قبل تفاقمه، حتى المنوط بفض الاشتباك لا بد أن يكون صوته أعلى حتى يغطى ويؤثر ويستقطب من يساعده ربطتني صداقة قوية حميمة بالملحن الكبير محمود الشريف، الذي كان بدوره صديقا - وعديلا المطلب. وقد أتيح لى الاقتراب من أبي نور، فاستملحت شخصيته العذبة الجميلة كصوته، المليئة بالظرف وخفة الظل، وعرفت إلى أي حد كانت رحلته مع الغناء حافلة ومهيبة. ففي طفولته وصباه كان يردد الأناشيد الدينية والتواشيح والابتهالات، ويتمنى أن يكون صييتا مشهوراً، فأخذ يجهز صوته لهذه الهبة الصعبة وينمي قدراته وأوتار صوته بجهوده الذاتية التلقائية، لكنه حينما كبر وجد نفسه يحترف الغناء الدنيوي. وعند ذاك لمحمد عبدالمطلب.

خرج المطرب الشاب محمد عبد المطلب من عباءة الغناء البلدي، غناء المواويل الحمراء والخضراء، وحينما انتقل إلى العاصمة ليحترف الغناء على نطاق واسع ؛ بدأ التعامل مع الأشكال الغنائية المستحدثة، كالدور والطقطوقة والمونولوج والموشحة، وكان ذلك بمثابة امتحان عسير، فهذا الصوت القوى الجبار الذي اعتاد الانطلاق كالرهوان الفتى يقسم ويرتجل ويليل بكامل حريته وسلطنته وتجلياته، كيف به یغنی غناء محكوما بلحن محدد، في إطار نغمي محدد، لا يحتاج لكل هذه الطاقة الصوتية العالية، إنه إذن كرافع الأثقال الذي يدخل في مسابقة لرفع الريش، المنتظر أن الألحان الحديثة مهما قويت فإنها «تلق» في صوته، لأن صوته فضفاض عليها. ولكن عبقرية محمد عبد المطلب، أو قل عبقرية صوته، كانت من المرونة والنعومة بحيث أمكنها الانضباط التام في هذه الألحان، بحيث أصبحت لها جمالياتها الخاصة على صوته الجهير العريض، أغنية «يابو العيون» مثلا – التي لحنها محمود الشريف - لم تكن تتطلب سوى طاقة صوتية محدودة، كأغنية هادئة هامسة مليئة بالشجن المنساب كشقشقة العصافير ؛ غناها - تقريبا - جميع مطربي ذلك الزمـان من الجنسين، ومع ذلك لم تصـل إلى أعلى إحساس وأجمل أداء إلا على صوت عبد المطلب.

وبغض النظر عن أغنيات صادحة وضعت على مقاسه، لکی يصول صوته ويجول فيها، مثل أغنية يا حاسدين الناس، أو أغنية شفت حبيبي وفرحت معاه، أو أغنية أنا أحب البلدي وأموت في البلدي، وهي أغنيات تتيح له التصرف الحر والدخول بمواويل، فإنه قد غنى لمحمود الشريف ومحمد عبد الوهاب ألحانا في منتهى الرقة والعذوبة والرصانة، نافس بها فرسان ذلك اللون في ذلك العصر من أمثال عبد الوهاب وفريد الأطرش، وإبراهيم حموده ومحمد فوزي، بل إنه يقارن بعبد الوهاب في أغنية كأغنية فايت وعنيه ف عنيه شافني ما سلمش.

1993*

* روائي وصحافي مصري «1938 - 2011»