من يصدق؛ نصف قرن أو ما يقارب قد مضى على ولادة ناب الثعبان المسموم في الخاصرة العربية. سريعٌ هو الزمن؛ وبطيءٌ هو الوقت. ولم تبق الدنيا على حالها طوال تلك السنين. تبدلت الأحوال هنا وهناك. وليل الهامدين يُخيم على أجزاء من العالم العربي، والأمم من نكبةٍ إلى أخرى. والجوع يسيطر على عواصم لم تكن كذلك فيما مضى. وليس أقصد بالجوع أن ينام أحد بلا عشاء، لا، إنما من يبحث عن لقمة عيشه في سلال المهملات.

ولبنان الذي سأتحدث عنه اليوم من زاوية فيها كثير من الألغام، له نصيب من ذلك المشهد المؤلم، بكل أسى. وهذا له مسبباته، وسآتي على ذكرها لاحقاً وبالتفصيل. لكن المهم في البداية الاعتراف بأن هذه الدولة تعاني من عدة معضلات، هي التي جعلتها تتحول من طبيعية، إلى عكس ذلك، ماهي؟ أولاً: تنامي السلاح السائب منذ أكثر من أربعين عاما، وهذا حكمه عاملان؛ الحرب الأهلية، والتبعية للخارج.

ثانياً: احتكامها لعنوان مزيف استفاد منه من قام بصناعته كشعارٍ، واقتاتت عليه الجمهورية الإسلامية الإيرانية وأتباعها ومن يدور في فلكها بالمنطقة طوال هذا الوقت.

ثالثاً: الرغبة الجامحة في خلع الرداء العربي على حساب ارتداء العباءة السوداء الخمينية؛ في ظل مخاوف الأحزاب السياسية والزعماء السياسيين وأبناء العشائر من معارضة هذا الخط، خشية التصفية، التي ذهب ضحية مقصلتها رئيس الوزراء رفيق الحريري، ووسام الحسن، وسمير قصير، وباسم فليحان، ومحمد شطح، والزميل جبران تويني ولقمان سليم، والقائمة في حقيقة الأمر تطول أكثر مما يُخال للبعض.

وبالعودة لنصيب لبنان من الصور المؤلمة التي ذكرتها آنفاً، فذلك يمكن بناؤه على سؤالٍ مشروع هو: لماذا هذا المشهد السوداوي في تلك الدولة.؟

الجواب: لأن اللبنانيين قبلوا وانساقوا وراء شعار الدولة الذي رُسم في الضاحية الجنوبية لبيروت حيث معقل ميليشيا حزب الله، بعد أن سيطر على مفاصل الدولة، والذي يكرس لـ«الجيش، الشعب، المقاومة»، وهو الشعار الذي تحول مع الوقت ضمن الممنوعات التي لا يمكن الاقتراب منها.

ماذا يعني ذلك.؟ يعني أن الامتثال لسلاح حزب الله في إطار «المقاومة»، أمرٌ حتمي، ومن يبدي المعارضة، سيذهب ضحيته – أعني السلاح نفسه - هذا من جانب عملي.

وفي الحقيقة هناك جانب نظري في القصة، يتمحور حول أن ثمة شخصا يجب على الجميع ألا يرون إلا ما يراه، ولا يسمعون إلا ما يسمعه، ولا يقولون إلا ما يقول، وما يريد أن يُقال.

هو حسن نصر الله زعيم ميليشيا حزب الله الإرهابية، التي كسرت كل مفاهيم الدولة والمواطنة وقفزت على ذلك بالمذهبية والطائفية والتبعية للمفاهيم والأسس الخمينية.

من هنا يمكن فهم الجزء الماضي في السيناريو السياسي اللبناني الذي جعل لبنان يتحول إلى لا دولة.

وفيما يتعلق بالقادم من الأيام، فحسب ما أتصور أن لبنان سيكون ضحيةً كما كان في السابق، لكن وفق سيناريوهات مختلفة، وقصدي هنا أن الساسة في طهران باتوا يرون أن النموذج الدولي الجديد قادمٌ لا محالة، وعلى هذا الأساس دفعت طهران حزب الله لتسوية النزاع الحدودي مع إسرائيل، لا سيما وأنه سيصبح مصدراً يعطي الميليشيا عدة مكاسب. ماهي.؟ الأول: مكسب مادي، وهذا سيكون مصدره عوائد الغاز.

الثاني: وهو مكسب معنوي يمنح حزب الله مزيداً من الأرضية والشعبية، باعتباره هو من هندس الاتفاق مع إسرائيل، وكان الهدف من ذلك تحويل الأمر إلى مُنتج نهائي لن يتحقق إلا بموافقته. بمعنى أن اللبنانيين لن يقطفوا الزهرة من البستان دون قبول حزب الله بترسيم الحدود.

على الصعيد الشخصي لا أتصور أن اللبنانيين الأحرار سيكونون بمثابة لقمةً سائغة بيد مختطف دولتهم، لا سيما وأنهم يؤمنون بانقلاب المزاج السياسي لزعيم الميليشيا حسن نصر الله، الذي اعتبر فيما مضى أن المشروع الذي يهدد المنطقة، هو المشروع التكفيري المتوحش، ويقصد تنامي التنظيمات المتطرفة في المنطقة وعلى رأسها «داعش»؛ وتفسير هذا الحديث أن المعركة انتقلت من مواجهة إسرائيل التي قال إن التوصل لاتفاق معها بمثابة انتصار، إلى مواجهة المتطرفين، وهذا بالضرورة يقف عائقاً أمام نقل سلاح المقاومة المزعوم إلى حضن الدولة والجيش، والدليل على ذلك، محاولة تذاكي نصر الله من ناحية اعتباره الاتفاق مع تل أبيب انتصاراً للبنان كدولة وشعب ومقاومة، في رسالةٍ ملغومة يستهدف من خلالها الإبقاء على حزبه حاملاً للسلاح خارج نطاق القانون.

إن الحاجة باتت ملحة لمواجهة التطرف والإرهاب الشعبي الذي تقوم به ميليشيا حسن نصر الله من خلال تفكيك تلك المعادلة التي ورطت الجميع، وإلا فإن القادم من الأيام سيكون وبالاً على لبنان، من خلال تصعيدٍ سياسي مسلح، يفرضه الفراغ الرئاسي، ووجود حكومة مؤقتة لا تملك من أمرها بعض الشيء في أي شيء، وقبل ذلك الانتعاش الذي يعيشه الحزب الإرهابي بعد الاتفاق على ترسيم الحدود مع إسرائيل.

فمواجهة حامل اليوبيل الذهبي في الإرهاب عابر القارات،هو خيار واحد لا بديل له.

على الأقل لاستعادة الأماكن المسروقة.. وذاكرة الجدات، ليجدن ما يمكن روايته للأحفاد.