من أهم الكتب العربية التي تناولت مفهوم العلمانية بشكل مفصل وشامل، كتاب «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» لعبدالوهاب المسيري، الذي تعامل معها بوصفها ظاهرة عالمية ومشتركا إنسانيا يمكن أن ينطبق على كل مجتمع وكل ديانة. ففي مؤلفه الضخم الذي ناقش فيه العلمانية من الناحيتين النظرية والتطبيقية تناول المسيري عدة ظواهر حديثة، كالعدمية والتشيؤ والاغتراب واللامعيارية واللادينية، ووضعها في سلة واحدة وأطلق عليها مسمى العلمانية الشاملة.

هل أخطأ المسيري في تعريف العلمانية؟ وهل هذا الخطأ قاده للاعتقاد بوجود علمانيتين، جزئية وشاملة؟ والعلمانية كما يعتقد المسيري متتالية آخذة في التحقق بغض النظر عن المجتمع وتراثه الديني والحضاري. صحيح أن المجتمعات الحديثة تأثرت بثقافة السوق الاستهلاكية العالمية، سواء على المستوى الاجتماعي أو الثقافي ولكن هل يصح ربط هذه التأثيرات والتحولات بمفهوم العلمانية الشاملة التي يعتقد بوجودها المسيري؟

ينظر مفكرون كثر للعلمانية باعتبارها ظاهرة غربية وحسب، ولا يوجد لها مرادف معجمي أو ثقافي في المجتمعات العربية الإسلامية.

يقول محمد عابد الجابري: «فلفظ العلمانية حتى إذا قصرنا معناه على العالم الدنيوي، لا يفيد شيئا محددا في المجال التداولي العربي. وكل ما في الأمر هو أننا إزاء تحايل لغوي لتحميل هذا اللفظ معنى لا مرجعية له في اللغة العربية».

يتناول الجابري مفهوم العلمانية هنا من زاوية معجمية، ولارتباط العلمانية بالكنيسة ارتباطا وثيقا، فهي المقابل لكلمة «الإكليروس»، فهناك في الموروث المسيحي رجال الدين (الإكليروس) والرجال العاديين وهم العلمانيون. وهذا التصنيف يضفي الطابع المؤسسي على الكنيسة وعلى منسوبيها. فالإكليروس هم المؤهلون لأداء المهام والواجبات والطقوس الدينية باعتبارهم أشخاصا محترفين، ينتمون لمؤسسة الكنيسة وينتظمون وظيفيا في سلك الكهنوت الكنسي. ولهم رتب وظيفية أقرب للرتب العسكرية في سلم وظيفي هرمي كالتالي: (شماس، راهب، كاهن قس، كاهن، أسقف، بابا).

وفي الكنائس الكاثوليكية يشار إلى كل شخص لم يتم ترسيمه كشماس أو كاهن أو أسقف على أنه شخص عادي أو علماني، ولكن هذا لا يعني أنه ضد المسيحية أو ضد الكنيسة، فهم مسيحيون يعيشون حياة المسيح في العالم الخارجي للكنيسة، وأعضاء كاملون في الكنيسة، ويشتركون في هدفها حتى مع كونهم خارج السلطة الهرمية للمؤسسة الكنسية.

يقول الجابري موضحا المقصود بكلمة لائكي الفرنسية وتعني العلماني: «فالأفراد الذين يطلق عليهم لائكي (Laic) كانوا يعتبرون مسيحيين بالتمام والكمال، أي أنهم أعضاء كاملي العضوية في شعب الله، يؤمنون بالمسيح وهم أتباع خلص له. وكل ما في الأمر أنهم ليسوا أعضاء في التنظيم الكهنوتي الذي تتشكل منه الإمبراطورية البابوية وإذا فاللائكية في الأصل لا تعني اللادينية، وإنما تعني عدم الانتظام في سلك الكهنوت الكنسي».

يأخذ انخراط العلماني في المجتمع أشكالا مختلفة بما في ذلك المشاركة في حياة الأخويات والمؤسسات التبشيرية التابعة للكنيسة، وعندما يوجد نقص في أعداد الكهنة يتعين على الكنيسة الاستعانة بالعلمانيين باعتبارهم متطوعين للقيام بالمهام التي يؤديها الكهنة، هنا نجد ارتباط مصطلح العلمانية بالكنيسة المسيحية، وحين نريد تطبيقها في مجتمعات غير مسيحية فإن العلمانية تصبح بلا معنى.

يقول الجابري: «فكل من لم يكن ينتمي إلى نظام الكنيسة وموظفا في دولتها كان يحسب ضمن فئة اللائكيين حتى ولو كان متدينا تدين الراهب. لم يكن معيار التصنيف هو التدين أو عدم التدين بل كان المعيار هو الانتظام في سلك موظفي الكنيسة أو البقاء خارجه».

نجد هنا أن مفهوم اللائكية الذي له صلة وثيقة إن لم يكن مرادفا لمفهوم (Secularism) لا يوجد له مرادف في الثقافة العربية وموروثاتها، وهذا ما أكده الجابري من صعوبة نقل المفاهيم من تجربة حضارية ذات خصوصية دينية كالنظام الكنسي إلى نظام لا يعترف أصلا بالكنيسة. ما يعني أن عبدالوهاب المسيري أسس تعريفاته على أساس خطأ إلى حد ما. فهو مزج عدة مفاهيم في قالب العلمانية، ما جعله يعتقد بوجود علمانيتين، جزئية وشاملة. والعلمنة الشاملة لا تعني قطع كل العلاقات ما بين العالمين، السماوي والأرضي، بل تعني إلغاء كل الصفات المؤسسية لرجال الإكليروس وكل الوظائف الكنسية وتحويل رجالها إلى أشخاص عاديين (علمانيين).