يقول الفنان راشد الشمراني في سياقِ حديثه عن سبب عدم تراكم الخبرة في المسرح السعودي -أثناء لقاء في برنامجِ الندوة: «كُنَّا في جامعةِ الملك سعود -سابقًا - نتدرّب كما لو كُنَّا في أكاديمية مسرحية، إذ كانَ يعمل معنا الأستاذ رشدي سلام -وهو خرّيج معهد- فنتدرب أكاديميًّا على جميع المستويات: الصوت، الأداء، الحركة، النص... إلخ، لهذا فمسرحيات الجامعة تلك الفترة، كانت حقيقيّة، ثم بعدها بسنوات انحدر المسرح السعودي».

في تلك الفترة كان نذير العظمة يُحاضِر في جامعة الملك سعود، وأخذَ يَرقب المسرح السعودي، فلما وجده -بحسب فهمه- يلتزم بالتعبير عن اللحمةِ الحيّة للتجربة الجمعية، قررَّ أن يُدَوّن كتابًا عنه، وكأنَّه يغض النظر عن الفعلِ الأكاديمي -الذي أشار له راشد- بوصفه مأزقًا تاريخيًا مرتبطًا بالقواعدِ المضمّنة روحَ زمنها، ليبدأ من عتبةِ المجتمع، منطلق تنظيره الخفيّ للتقنياتِ والأشكالِ التي يريد أن نَصُبَّ بها مضاميننا القومية.

لكن ظلَّ نذير يجهل المجتمع السعودي، مأسورًا بالتنظير القومي لمجتمعٍ عربي، لهذا تَشتَّتَت رؤيته بين علاقةٍ جدلية (مسرح/مجتمع)، وتحديد معادلة مقبولة للمسرح -تتلاءم مع المنظار القومي- من قادةِ الفكر، لما رأى خلافات في الصحافة حول المرأة، والقيم والتقاليد، والمعتقدات؛ فانحسرت مراقبته للمجتمع، ولجأ للالتفاف على الموضوع باختيار أسلوب نظري يحل المعضلة؛ وهو أن يقرأ المجتمعَ من النص، بوصفه متفاعلا مع المجتمع بصورة جدلية. لكن هل أسعفه النص ليقرأ المجتمع كما هو، لا كما تريده العقلية القومية؟

إذا كان نذيرٌ يُركِّز على الشكلِ والتقنية في مرحلةِ الابتكار العربي لمسرحٍ خاص، فإنه يُخلّ بهذا الأصلِ النظري على حسابِ لا وعيه القومي في مضامينه؛ وبيان ذلك أنَّ المسرح السعودي بدأ باستلهامٍ تراثي، كفعلِ أبي خليل القباني، حيث نجد عبدالله مليباري -من أوائل من ألّف مسرحيات سعودية- كتبَ مسرحية (فتح مكة)؛ إلا أنَّ القبّاني يستعيد القوميةَ العربية في مقابل استعمارٍ عثماني، بينما مليباري يستعيد الإسلامية فنّيا، في وسط بنية مدنيّة -لم تتعرّض لاستعمار- تستلهم حياتها من نصوصِ الإسلام، ولهذا كانت الاعتراضات -على مخرج المسرحية محمد مشيخ- حول الشَّكل المقدم به تاريخ الإسلام، لا عن المضامين، أما القبَّاني فكانت المواجهات ضده مُضمّنة -في أساسها- صراعًا قوميًا بكلٍّ حمولته.

ومن ثم فإنَّ نذيرًا لم يتنبّه لمشكلة الشكلِ في المسرح السعودي، فضلًا عن الفرقِ بين طبيعةِ الاستلهام. بل إنَّ نذيرًا لم يستطع أن يقرأ المجتمع السعودي من النصِّ، وهو يتأمل مسرحيةَ (المهابيل) لإبراهيم الحمدان، وهي من المرحلة الثانية في المسرح السعودي، حيث رأى نذير -في النص- طَرْحَ قضايا ليست موجودة في المجتمع، وفي الآنِ نفسه كانت الجدليةُ مختلَّةً مع المجتمعِ كما يعرفه في تاريخِ الهمِّ القومي، وقضية النضال العربي الوحدوي، فقال «بضرورة تلاؤم النصّ مع الشروط المجتمعية المفروضة من قِبل المجتمع» وهو هنا كأيِّ ناشطٍ حين يُرهِقُ كاهلَه الواقعُ في تفتّتِ ظروفه، ونتائجه، وابتعاده عن شروط النظرية، فيسعى لتدخّلٍ عنيفٍ، إما بالقول أو بالفعل. ثم نجد نذيرًا -بقوميته- يلجأ إلى جورج لوكاش؛ ليسعفه من مأزقه -في قراءة صحيحة للمجتمع السعودي مع مسرحه- فأخذ منه الانعكاس الصادق، وكأنَّ نذيرًا تنبّه أنه كان في انعكاسٍ مزيّف، فنبّهه رجلٌ (مَجري) عن مجتمعٍ عريق في تاريخ الجزيرة، فأخذ نذير يصف المجتمع السعودي بأنَّ ثمةَ طبقات متمايزة مُسيطَر عليها تبني ثقافةً خاصّة، ومنها ما نراها في المسرح السعودي وهي انعكاس صادق؛ وكأنَّ نذيرًا انطبق عليه المثل القائل: «تمخّضَ الجبلُ فولد فأرًا». إن نذيرًا مهمومُ بأن يَنعكس ما في جعبته من نظرية على المجتمعات العربية كلها، ولما جاء إلى السعودية استعصت على نظريته، فظلَّ يتخبَّط بين رؤى قوميّة محضة، ومقولات ماركسية، لعله يقبض على تحديدٍ نظري للمسرح السعودي وعلاقته بالمجتمع، إلا أنه لم يُدرك مَكمن الزيف من أساسه، وهو النظر بحتمية شاملة للتاريخ خارج الإنصات الدقيق لوقائع المكان الحقيقية، وكيف لو كان هذا النظر نفسه لم يستطِعه أيضا؟! ومن المفارقة أن يكون هذا الذي يقتبس من الماركسيين بشكلٍ عشوائي يتعامل -بقراءةٍ انعكاسية آلية- مع جمهور المسرحية -المَدرُوسة- بكونه انعكاسًا ضروريًا لحصيلة ما يظهر أنه المجتمع؛ ومن ثم تكون المسرحية تهتمّ بمشاعره، وترضيه كطفل، وسيكون المسرح حينها مؤسسةً أدبية تبدأ بقُرّاء بلا وعي فردي؛ أي تقوم على (قارئ قاصر -ناشر- مؤلف انعكاسي)، ولبيان ذلك سأتطرق لحديثه عن مسرحيةِ (طبيب بالمشعاب) للحمدان، تلك التي حولها من نص موليير (طبيب رغمًا عنه) إلى اللهجة السعودية؛ بعد أن هذَّبها مُزيلًا منها العنصرَ النسائي، وما يتعلق بالخمر. وهذه المسرحية في السبعينيات؛ ومع ذلك فَرِح نذير بهذا العمل؛ لأنَّه أراحه من همِّ القلق الذي جاء من مسرحية المهابيل في الثمانينيات، وكأنه رجع للزمن لينقذه؛ فقرأ المسرحية على أنها انعكاس لما هو ممنوع في السعودية من جهة المضمون، وأما الشكلُ فهو قدرة على تحويل النص الفرنسي ليكون معادلًا اجتماعيًا ونفسيًا للسعودي. أي أنَّ نذيرًا نزع عن المتفرجين تفاعلهم الحي، وجعل وعيهم الطفولي، يُمثّل (الأب) بانعكاس آلي، لهذا جعل من المتفرجين لمسرحية طبيب بالمشعاب، ممثلين عن (الأب) الذي ينتج الفكرة الواحدة في المجتمع السعودي، ومن ثمَّ جاء إبراهيم الحمدان ليكتب نصًا خاليًا من كل تفاعلٍ ما عدا إنتاج هذه الفكرة الواحدة -فنيا- المنتجة من الأب. والأب سيكون هنا هو الناشر في مفهوم المؤسسة الأدبية. وهذا لم يجرِ في مسرحية طبيب بالمشعاب، إذ لم يكن الممثلون والمؤلف والمشاهدون الخاصّون إلا أصحاب تفاعل ورؤى مع تاريخ السعودية نفسه، لهذا فإنَّ الناظر -بعين الناقد- لطبيب بالمشعاب سيجد إنتاجًا يتجاوز الانعكاس الآلي القائم على المؤسسة الأدبية الخالية، لهذا كان نذيرٌ انتقائيًا في المسرحيات الرجاليّة، فضلًا عن كونه لم يتطرق إلى أولِ مسرحية نسائية كانت في الثمانينات اسمها (مونوكوليا) للحمدان، وأهميتها في تحليل شكل المسرح النسائي في ظل إنتاج الأفكار المجتمعية آنذاك، لا بكونه مسرحًا نسويًا إذ هذا موضوع آخر.