حين تستعرض التاريخ الأخلاقي عند سائر الأمم ستلتفت حتماً إلى أمر شديد الظهور، وهو ضعف التداخل التلقائي بين الأمم في أخلاقها ولغاتها وآدابها وعاداتها وكل ما وجد عبر التاريخ من تداخل في هذه الأمور بين الشعوب فهو أخلاق فطرية تشابه فيها بنو آدم لكونها مركوزة في الفطر كحسن الصدق وقبح الكذب، وابتناء المجتمعات على الأسرة وتقبيح اختلاط الأنساب.

وما سوى ذلك فلا تتداخل فيه الأمم إلا بطرق غير تلقائية، كاحتلال شعب لأرض شعب آخر، يؤدي إلى تقليد المغلوب للغالب أو هيمنة دولة على واردات دولة أخرى بحيث تكون قادرة ببطء على تغيير أنماط الاستهلاك فيها بالتالي تغيير ما يقترب من الاستهلاك من عادات الشعب وتقاليده، أو بطريقة تآمرية لكسر المناعة المجتمعية لتصدير إحدى العادات إلى مجتمع آخر.

ولعل من أقدم الأفكار التآمرية لكسر الممانعة المجتمعية، وجود عناصر في المجتمع المستهدف تعمل على اختراقه من الداخل، ويبدأ ذلك أولاً بالعمل على إحداث قناعة لدى المجتمع المستهدف بأن هذه العادة أو الخلق المراد تصديره أصيل وليس مستورداً غريباً عنه، وهذه الطريقة ينتح عنها صدمة قوية في بداية الأمر، ثم مع كثرة الإلحاح عليها من واحد واثنين وثلاثة تصبح فكرة أقل تقدير يمكن استمراؤها، حتى يتطور الأمر شيئاً فشيئاً إلى ما هو أعظم، حيث يتجرأ بعض أفراد المجتمع على الإعلان عن أنفسهم كممارسين لهذه العادة الدخيلة، ومن هنا تبدأ ضغوط الجهات المصدرة لهذه الخليقة في الإلحاح والضغط على إظهارها والاعتراف بها ونشرها.

هذه الطريقة في النشر التآمري للأخلاق الدخيلة قديمة حقاً يقصر مقامنا هنا عن ذكر أمثلتها التاريخية.

أما في هذا العصر فلا يخفى على ذي لب أن هناك قوة خفية تعمل في العالم بأسره على نشر خلائق قذرة يروجون لها باعتبارها قيما غربية بزعمهم، وسخروا لأجل تعميمها منظمات الأمم المتحدة لفرضها سياسياً على جميع دول العالم، ويستعملون أسلوب عمرو بن لحي الذي وطن الأصنام في جزيرة العرب لتوطين هذه الخلائق في أشد البلاد رفضاً لها.

ومن هذه الخلائق فاحشة قوم لوط، وهم قرى سدوم الواقعة في مكان البحر الميت والتي قال الله فيها على لسان نبي الله لوط عليه السلام ﴿ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين﴾ [الأعراف: 80]

وهي الجريمة التي سميتها في هذا المقال «السدومية» تنزيهاً لنبي الله لوط أن تنسب إليه أو يشتق اسمها منه، ويعلم الجميع أنها جريمة ظلت ممقوتة ومستنكرة في جميع أنحاء العالم وفي جميع الديانات حتى عصرنا الحاضر، وعلى الرغم من وجودها في كل زمان ومكان فإن أمة من الأمم لم تقل أبداً إنها مكون من مكونات ثقافتها أو جزء من ثقافتها، حتى الأمم الغربية اليوم التي تتبنى نشر هذه الجريمة لا تزعم أنها جزء من ثقافتها أو مكون من مكونات ثقافتها، وإنما يحتجون بكونها حرية شخصية لا غير.

وفي التراث الأوروبي المكتوب تكاد تكون قليلة الظهور، ومذمومة أيضاً، فبريطانيا مثلاً أصدرت سنة 1860 وهو تاريخ قريب قانوناً يشمل جميع مستعمراتها يجرم هذه الممارسة، والدين النصراني في مصادره التوراتية يجرمها بشدة.

أما الحجة التي استخدمها دعاة الشذوذ وهي كونه طبيعة متعلقة بالتكوين الجيني للفرد، فلم تكن إلا سلاحاً استخدم لمناظرة القساوسة وعلماء النصارى لإحراجهم في قضية القضاء والقدر، وقد استطاعوا ذلك فعلاً، فصدرت قرارات كنسية كثيرة بإباحة هذا الأمر، كما وضعت هذه الحجة ليستعين بها السديميون في كبح الشعور بالذنب أو الحياء من هذه الجريمة.

وثبت أخيراً علمياً كذب هذه الدعوى، وثبت أيضاً أن الإنسان يولد على الميول الفطري، وإنما يأتيه الميول الخبيث نتيجة سلوك خاطئ مارسه أو مورس عليه في صباه أو لأسباب أخرى خارجة وبعيدة عن التكوين الجيني.

في العالم الإسلامي هناك آلة إعلامية كبيرة وقوية لإقناع المسلمين أن السدومية جزء من الثقافة الإسلامية، فكاتب يبرهن على ذلك بقصائد الغزل بالمذكر، التي ظهرت في شعر أمثال والية بن الحباب وأبي نواس في العصر العباسي الأول، وما ورد في كتاب الأغاني والموشى وأمثالهما من قصص عن هذه الفاحشة، وآخر يكتب عن قصص بعض المترفين من أمراء البويهيين والسلاجقة والمماليك، وكل ذلك سعياً لأن يقولوا إن هذا المنكر جزء من الثقافة الإسلامية ليخادعوا عقول الجهلة فتضعف الممانعة المجتمعية ضد هذا المنكر.

والبعض يسعى لإضعاف الممانعة الدينية أيضاً، فقد وجدنا من السفهاء من يكتب مشككا في تحريم السدومية، وأكثر تشكيكا في تحريم استغناء النساء ببعضهن.

وهذه الكتابات كلها ليست بعيدة عن العمل التآمري ولن أقول أبداً إن الذين يكتبون كل تلك الكتابات وفي هذه السنوات على وجه التحديد كانت مقاصدهم البحث الاجتماعي والأخلاقي المجرد، ولا أستبعد أنهم مستقطبون من منظمات دولية من تلك التي ترفع هذه الراية وتمارس ما نشاهده من الضغوط على الأفراد والدول والمؤسسات في الغرب وفي الشرق.

ولا أظنه إلا متأثراً بهذا الجو الإعلامي ومستقطباً أو متبرعاً لخدمة هذا المشروع مع جهل تام بما يقول وبأبعاد ما يقول، ذلك المهووس الذي أثار حفيظة كثيرين حين كتب: إن هذه الفاحشة جزء من ثقافتنا، ولا تخرج استدلالاته على طولها عن كون هذا المنكر قد وقع في بلادنا، وكل ما وقع يكون جزءاً من الثقافة بل ومكوناً لها.

وهذا الطرح من هذا المغمور لن يكون وحيداً بل سيتبعه مغمورون آخرون يزعمون الشجاعة والانفتاح في التفكير، كما يزعمون أيضاً حسن النية وأنهم يصرحون بذلك من أجل علاجه، والحقيقة عكس ذلك، فهم شاءوا أم أبوا أبواق يعملون لتطبيع هذا الأمر والتقليل من استشناعه عن طريق ما ذكرناه سابقاً من صدمة المجتمع بهذه المصارحة حتى إذا تم امتصاص الصدمة سيصبح الحديث في هذا المنكر على جميع الوجوه سائغاً أو على أقل التقديرات يمكن احتماله ولو على مضض، وهي مرحلة يفترضون أن تلحقها مرحلة الشجاعة الأكبر بإعلان بعض مرتكبي هذا الجرم عن أنفسهم من منصات ليس بالضرورة أن تكون داخلية وإن كانت ستدعي حتماً أنها داخلية، كما حصل من عدد من مدعيات النسوية اللاتي نسبن أنفسهن لبلادنا ثم تبين أنهن يكتبن من الخارج، وتكرار التجربة مع السدوميين لتوطين هذه الجريمة أمر منتظر.

كل هؤلاء الذين وصفتهم ممن يسعون لتوطين هذا المنكر إسلامياً أو محلياً ليسوا في حاجة لأن نرد عليهم لأنهم طلاب باطل. وطالب الباطل لا ينتظر سماع الحق، لكننا نتحدث مع القراء عموماً إشاعة للحق وإظهاراً له على الباطل.

فلكي نقرر ما هو جزء من ثقافتنا أو ثقافة أي أمة علينا أن نعرف الثقافة أولاً، فنقول: الثقافة هي كل ما يكون ذهنية مجتمع أو أمة ما، من دين ولغة وتاريخ تؤثر بالطبع على إنتاج أخلاقها وآدابها وتصوراتها أو رؤاها للكون والحياة وكذلك العبادات والعادات والأعراف، حتى يصل تأثيرها إلى لباسها وطرائق سكناها بل ربما تجاوز ذلك إلى أساليبها في المخاطبات والمكاتبات والحركات والسكنات.

وهذا التعريف لن يجد أي منصف بدا من الإقرار له تماماً أو اقتراباً، فهل ينطبق على السدومية في بلادنا أو في العالم الإسلامي؟

هل هي مكون لذهنية المجتمع كالدين واللغة والتاريخ، وهل هي نتاج هذه المكونات الصحيحة؟

الجواب: لا.

ووجود قيم أو أخلاق في مجتمع ما خارجة عن مكونات قيمه الأساسية، أمر متصور، ويقع كثيراً أن تنشأ بعض الأخلاق والرؤى والعادات بعيداً من الأصول الفكرية لمجتمعها أي تنشأ من تفاعل مع دين آخر أو تاريخ آخر أو بيئة أخرى، وهذا الخلق أو هذه العادة أو هذه الرؤية ستظل ناتئة مناقضة لسياق المجتمع بأسره بما يحمله من ثقل ثقافي كبير.

ومقدار معاناة هذا القيمة الوافدة من رفض اجتماعي يمكن أن يكون مقياساً لمدى تفاعل المجتمع مع الأصول الحقيقية المكونة لقيمه الاجتماعية التي أشرت لها قبل قليل.

ووفق هذا التعريف ستجد أننا لا نقول إن السدومية ليست جزءاً من ثقافة السعوديين أو العرب أو المسلمين وحسب، بل ليست جزءاً من ثقافة أي مجتمع في العالم بما في ذلك المجتمع الغربي الذي يدعو إليها الآن ويقاتل من أجلها، فهي عندهم قيمة ناتئة كما هي ناتئة في الأقطار والمجتمعات الرافضة لها، والفارق بين الفئتين، الغرب والمجتمعات الرافضة، أن الممانعة المجتمعية ضد هذه الجريمة تم كسرها في الغرب وأزيلت العقبات التي تحول دون انتشارها وأولها الدين ثم المروءة والحياء والتربية الأسرية والغيرة، كل هذه المعوقات دون انتشار السدومية أزيلت في الغرب، وهذه المعوقات التي تحول دون انتشار هذه الفاحشة يتم التسلط عليها الآن بقوة لإزالتها في جميع أنحاء العالم، ليس لأجل نشر السدومية فقط، وإنما لنشر كل ما يؤدي إلى حيونة الإنسان، فهناك قوى خفية لا تزال تعبث بالعالم وتتحكم في سياسات الدول الكبرى واقتصادها وإعلامها تفهم الإنسان بشكل غير الذي نفهمه، فالإنسانية عندهم هي عبادة الشيطان وتقديم كل ما يمكن أن تتصوره وما لا يمكن أن تتصوره من ضروب معصية الله تعالى قرباناً له، وهذا يذكرنا بحقيقة يتغافل العالم الحديث عنها، وهي أن الشيطان موجود، وأنه قد تعهد احتناك ذرية آدم كما رواه القرآن الكريم ﴿قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً﴾ [الإسراء: 62].

وهذه الآية بعينها تفسر وجود السدومية في كل مكان في العالم حتى بين أشد الأمم رفضا لها، وهو احتناك الشيطان لمن استطاع، ونسيان هذه الحقيقة أو تناسيها، هو وراء القول إن هذه الفاحشة جزء من ثقافة الأمم الرافضة لها، هذا الافتراء الذي يتدثر بالرغبة في المصارحة للإصلاح لا بد أن يعلم أن الإصلاح ليس بالاعتراف للشيطان بالنصر، وإنما باستضعاف كيده كما قال تعالى، «إن كيد الشيطان كان ضعيفا».