التكوين الجبلي الوعر لمعظم المناطق الجنوبية، ساهم في حمايتها من الطامعين في ثرواتها الطبيعية خلال القرون الماضية، وقد نقلت لنا كتب التاريخ أخبار العديد من المعارك، التي انتصر فيها أهل جبال السراة على الغزاة لبسالتهم وقوة بأسهم، وتوظيفهم الطبيعة المحيطة لتحقيق أهدافهم.

خلال رحلة جوية استكشافية بطائرة مروحية قادها العقيد حسين القحطاني ،فوق جبال أبها مروراً ببني مازن وشعف آل ويمن والسقا والسودة، تساءل السيد كريس عن سر تواجد القلاع في أعالي قمم معظم القرى والجبال، التي كانت المروحية تحلق على مقربة منها، ولأن الحوار لا يمكن سماعه داخل المقصورة فكانت الإجابة على الأرض بعد أن وجه أمير منطقة عسير قائد المروحية بالنزول في «ركيب» بجوار إحدى القلاع «القصبة» حيث كان الركيب «المهبط» خال من المزروعات، وكان تقدير قائد الأباتشي السابق صحيحاً حينما أشار بالهبوط في ذلك المكان، ترجل الجميع باتجاه القصبة التي بنيت بشكل هندسي بديع، وحصل السيد كريس على جرعة تثقيفية كانت جديرة بجذب انتباه الجميع.

هذه المباني تمثل جزءا مهماً من حياة الناس في هذه المناطق، فهي أبراج مراقبة وصد لأي معتد، وهي مخزن للحبوب تحسباً لأعوام الجدب، كما أنها ( مشراف) إذ إن أهلها يصعدون «يخيلون» النو القادم من فوق البحر الذي يبعد عن جبالهم أقل من سبعين كيلومتراً، تتجمع السحب فوق أعالي الجبال ويهمي المطر معلناً استمرار الحياة، ليس لتلك الجبال والأصدار المحيطة بها فقط، بل لأن خير هذه السحب يمتد الى القرى وصولاً إلى أبها وما خلفها من المدن، كما أن خيرات هذه المزارع التي تراها وخاصة الحبوب التي تسقى بماء المطر، يستفيد منها أهالي المنطقة في أسواقهم المشهورة والتي تعمل هيئة تطوير عسير لإعادة الحياة لها، تخيلوا عندما تكون هناك مسارات سياحية وطرق لممارسة رياضات كالهايكنج، وأماكن للسكن متناسقة مع الطبيعة كتلك الأكواخ التي نراها في سويسرا أو إيطاليا، كل شيء هنا يساعدك على رفع سقف الطموح، وبكل تأكيد فسيجد كل من يقف الى جوار هذه الحصون والقلاع شيئاً من الكبرياء والشموخ، حتى وهي تشكو حالة الهجر والنسيان.

كان ذلك حديث الأمير والذي أضاف: الجميل في إستراتيجية عسير التي أعلن عنها ولي العهد حفظه الله، أنها تسير على خطى الرؤية فيما يتعلق بتعظيم الاستفادة من مكامن القوة، مهمتنا هي إبراز هذه الميزات وجذب المهتمين وتسويقها يوماً ما بالشكل اللائق بنا وبها. ولعل مشاهدة عشرات القرى التراثية التي تمت إضاءتها بشكل جمالي رائع في مرحلة التهيئة قبل تنفيذ المشاريع الكبرى، من بلقرن في شمال عسير إلى ظهران الجنوب، تكفي للتأكيد على أهمية استغلال القرى والحصون والقلاع كعوامل جذب سياحي، وشواهد تاريخية لو كان لها أن تنطق لقالت «ماضيكم هو مستقبلكم فحافظوا عليه».

بالأمس انطلقت أعمال منتدى عسير للاستثمار في نسخته الأولى، والذي تم التحضير له مبكراً، وبتعاون مشترك وكبير بين هيئة تطوير عسير ووزارة الاستثمار ووزارة السياحة، إضافة الى عدد كبير من الوزارات والجهات الحكومية والخاصة، على رأسها إمارة منطقة عسير.

أعتقد جازماً أن حضور ومشاركة رجال الأعمال والمستثمرين، وبخاصة في قطاع الضيافة سيكون أشبه بتلبية دعوة عشاء فاخر بنظام البوفيه المفتوح، حيث كانت أمام الجميع العديد من الفرص الاستثمارية الجاهزة للاختيار منها ثم البدء مباشرة في التنفيذ، وهناك فرص أخرى لا تزال تحت الإعداد وستقدم على طاولة الاستثمار قريباً، حيث أمضت هيئة التطوير الأشهر الماضية في دراسة الاحتياجات الحالية والمستقبلية والتوجهات العليا للدولة، ثم أهداف وخطط إستراتيجية عسير، مع تحديد الأماكن المناسبة لكل نشاط مستهدف مع حزمة من التسهيلات، والوعد الشخصي من قائد مسيرة تطوير المنطقة، بحل أي تحدي يواجه المستثمر، كما أن وحدة «استثمر في عسير» التي تعتبر ركيزة مهمة لهيئة التطوير، تسابق الزمن وتتحدى نفسها ليس للحاق بل بتجاوز الركب.

لقد كان تركي بن طلال جريئاً عندما واجهه قبل عام الإعلامي عبدالله المديفر، بمقولة يرددها البعض «ما شفنا شي!» حينما رد عليه بالموافقة على ما يتداوله البعض لأن المواطن لا يهمه مراحل الدراسات وإزالة العوائق، وتذليل الصعوبات والبحث عن التمويل وغير ذلك، الناس تبحث عن المشاريع على الأرض وهذا حق مكتسب، أكدته سياسة المملكة الساعية دوماً لتحسين جودة الحياة،

واليوم وبعد مضي عشرين يوماً على صدور الأمر الملكي الكريم بتجديد الثقة وتمديد خدمة أمير منطقة عسير لمدة أربع سنوات يلتقي عدد كبير من رجال الأعمال والمستثمرين والمسئولين، في تظاهرة اقتصادية مختلفة في أجندتها وطريقة طرحها، لأننا في عسير تعودنا على التميز ويكفي لمن أراد منكم التأكد من ذلك، مراجعة المبادرات التي تم إطلاقها وتنفيذها خلال السنوات الماضية.

يقول الأستاذ بجامعة الملك سعود الدكتور أحمد الفرحان رئيس اللجنة العلمية للمؤتمر الدولي الأول للبيئات الجبلية شبه الجافة، والذي عقد في مدينة أبها في شهر سبتمبر عام 2019: منذ أربعين عاماً وأنا أحضر وأشارك في مؤتمرات محلية وإقليمية ودولية متخصصة، ولم أحضر مؤتمراً من قبل بهذا المستوى من التنظيم والحضور.

عوداً على منتدى الاستثمار الذي جاء في الوقت المناسب، ولامس حاضروه الواقع من خلال أمسية افتتاحية، أذهلت الحضور والمتابعين بثرائها الثقافي والفني، ظهرت من خلاله شيم أهل المنطقة ومدى احتفائهم بضيوفهم، وخلال جلسات المنتدى تم الإعلان عن ضخ ما يزيد على أربعة مليارات، في خمسة وعشرين فرصة استثمارية، تعد هي باكورة الاستثمار تحت مظلة إستراتيجية عسير وسيتبعها فرص أخرى سيعلن عنها قريباً. بقي أن أقول إن التكامل أصبح أكثر وضوحاً الآن على المستوى الإستراتيجي بين وزارة الاستثمار و السياحة وهيئة تطوير عسير من جهة، وعلى المستوى التنفيذي بين هيئة التطوير وأمانة المنطقة بثوبها الجديد ولجنة حلول تحديات رجال الأعمال بالإمارة والغرفة التجارية والمستثمرين، وهذا سيؤدي قطعاً إلى تسريع عملية الإنجاز وتحقيق المرام.

قلت لنائب وزير التجارة والرئيس التنفيذي للمركز الوطني للتنافسية الدكتورة ايمان المطيري ، أثناء انعقاد ورشة عمل للكشف عن التحديات التي تواجه الاستثمار في المنطقة، في الثالث عشر من يناير مطلع هذا العام، إن أقصر الطرق لدعم الاستثمار هو توفير برنامج حوافز على غرار برامج صندوق التنمية الصناعي، كتوفير قرض ميسر بدون فوائد يصل إلى نسب عالية من حجم المشروع وإعطاء فترات سداد طويلة الأجل، إضافة إلى مدد إيجارية لا تقل عن أربعين عاماً للمواقع الحكومية المعروضة للاستثمار، العائد على الاستثمار يجب أن يكون متقاربا بالنسبة للمستثمر عندما يقارن بين مناطق المملكة المختلفة، ولن يلام المستثمر إن اختار المنطقة التي تعطيه العائد الأعلى.

عسير بقيادة قائدها الفذ تعبر نحو أفق أرحب وتسير بخطى ثابتة نحو مستقبل زاهر، وسيرى الجميع نتائج العمل المضني السابق خلال الفترات القريبة المقبلة، وما إعلان صندوق الاستثمارات العامة بالأمس عن إطلاق شركة عسير للاستثمار إلا دليل يؤكد صحة التوجهات. شكراً لكل من خطط وعمل وشارك في نجاح هذا المنتدى المهم جداً، شكراً تركي بن طلال، فقد قلت يوماً عليكم الصبر ولكم منا الوفاء وقد فعلت.