دائماً ما يكرر صاحب البصيرة أنه لا بد عند النظر في نصوص الخطاب الشرعي أن يقتنع الناظر بأن «الواقع» له سطوة عليها، وله أهميته الخاصة عند من يريد تنزيلها على مستجدات الحياة، وعلى من يريد بناء أحكامه الشرعية عليها.

هذه الجدلية لا يفهمها حق فهمها إلا من علم بتنوع الحياة، وأن فيها كثيراً من المتشابكات، وأن كل من يقصر فهمه عن فهم الواقع يعد قاصرا ومقصرا عن فهم خطاب الشرع، ولن ينتج عن هذا القاصر والمقصر إلا سلوكيات منحرفة، تفسد المعاش، ولا يتوقع منها أن تصلح الحال، لا ولا المآل، ومن هنا صار لازما علينا فهم الواقع، وتفسيره، وأن نعلل ما نراه، ونتعمق في البحث عن أحوال الزمان والمكان، وعن قدرتنا على تنفيذ الاحكام، دون تجاوز للنصوص أو إجحاف بها أو بالواقع.

في واقع الحياة اليوم، الإنسان المتمسك بالقيم المتفق عليها، والمنسجم مع نفسه ومع الآخرين، لا يصح أن يتوجس منه غيره، أو أن يتعمق غيره في داخل نواياه، وإن اختلف عرقه أو لونه أو دمه أو معتقده، وليس خلف ذلك إلا الفوضى في الأخلاق والثقافات، وبناء مجتمعات تفتقد التشاركية اللازمة، وإلى رعاية الحقوق وحفظها وصيانتها وعدم سلبها، وإلى التراحم الذي ينشده الناس في ما بينهم..

المتوقف عند قول الحق، جل جلاله، في سورة الإسراء: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}، يفهم بقلبه وبعقله أنه لا اعتبارات للفوارق المذكورة سابقاً، في ظل التكريم الإلهي، والعطاء الرباني للبشر، وأن العدل في النظر إليهم يضبط أحوالهم، ويمنع عنهم الشعور بالمظلمة، أو أن هناك من يحقد عليهم، أو يكرههم، أو يريد أن يعطل عليهم الدخول في ركب الأسوياء، فقط لأنهم لم يختاروا ما اختاره غيرهم لهم من معتقد أو فكر، على الرغم من أن هذا المعتقد والفكر الخاص، لا يضر الآخرين، لا في حياتهم، ولا في أمنهم، ولا في عيشهم، ولا في أمانهم..

كل الذي ينبغي أن يصل إليه العقلاء هو أن يعترف الإنسان بأخيه الإنسان، وأن يثق الناس ببعضهم، وأن يقتنعوا تمام الاقتناع بأن «التعددية ضرورة وليست خيارا»، والدين يحميها، وفيه كل القوانين والتشريعات المنظمة لها، وللمواطنة المنشودة، ومقوماتها المتعددة، وفي الرأس منها، اعتبار أن الانتماء إلى أرض الوطن مقوم أساسي للمواطنة، وتعبير عملي عن العلاقات التفاعلية بين الأفراد، وأن الكل يعيش تحت نظام واحد، لا ينظر فيه إلى طول أو عرض، أو شرق أو غرب، أو فصيل أو قطيع، ولا يلتفت فيه إلى ما اختاره الإنسان لنفسه من حريات لا تضر غيره..

الناس في كل مكان بالعالم، يملكون الحق نفسه، في العيش والتمتع بالحياة، والتواصل مع الكون والكائنات، والانتفاع بالخيرات، وتبادل الخبرات، وتقدير الخصوصيات، ومن لديه شك في هذه الحقوق، أو ما يترتب عليها من واجبات، فلا شك أنه فهمه للواقع ليس بالقدر الذي أراده سيد البشر، صلوات ربي وسلامه عليه، الذي وإن كان قد أخرجه أضداده من مسقط رأسه ومحل نشأته، مكة المكرمة، وعادوه وآذوه، إلا أنه لما حانت لحظة الالتقاء بالأفرقاء بالمدينة المنورة أكد لهم، في وثيقته المشهورة، وصحيفته الخالدة، ومكاتبته التاريخية، التي أوردها أصحاب السير، جملة من المبادئ، اقتصر منها على ثلاثة: «أن المؤمنين والمسلمين أمة واحدة، وأن اليهود أمة مع المؤمنين، وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم»، والأولى واجبة التدبر.