الأوهام والخرافات، إن حضرتا في السياسة، فقل عليها السلام. في محيطنا هناك ما يمكن وصفه بالدول والدويلات والمزارع وهناك أيضاً العصابات التي تحكم ملايين البشر. في سوريا على سبيل المثال، مزرعة كبرى اسمها مزرعة آل الأسد. ولبنان أيضاً ليس ببعيد عن جارته؛ إذ إن مزرعة مجاورة اسمها «مشروع حزب الله»، الزراعي في لبنان. وفي العراق كذلك إبان فترة قبضة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي على مفاصل الدولة.

في طهران الوضع ليس ببعيد عما سبق إلا من حيث القبضة الحديدية المتطرفة، التي تنفذها مجموعة من عصابات رجال الدين ممن اقتحموا عوالم السياسة، وباتوا يتحكمون في مصير البلاد والعباد، وهم أبعد ما يكونون عن السياسة، نظير استبدال مفهوم الدولة، بمفهوم العصابة الحاكمة، التي طال بطشها الداخل بعد الخارج.

يقول الخبر القادم من إيران، إن «المدعي العام قرر حل شرطة الأخلاق». لكن ما هي شرطة الأخلاق؟ هي فئة متسلطة على المرأة الإيرانية، وتحاول على مدى سنين مضت، منذ اندلاع الثورة الخمينية، التحكم والسيطرة على حركات وسكنات الأنثى، وحجابها من عدمه، وحتى شكل ردائها.

وبعيداً عن كون هذا الجانب من السلطة الذي يتمتع بغطاء حكومي ورسمي، وبصرف النظر عن توظيفه كورقة سياسية داخلية بين المحافظين «المتشددين»، والإصلاحيين «الأكثر انفتاحاً» في الداخل الإيراني، إلا أن ذلك تحول إلى مثار جدل في أعقاب مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر الماضي، بعد أن قبعت في أحد أقسام الشرطة الأخلاقية ثلاثة أيام.

والمتابع للشأن الإيراني، لا بد له أن يلمس كثيراً من التناقضات، أهمها ادعاء الحكومة في طهران النزاهة، بينما الواقع يتحدث عن عكس ذلك. ما الدليل على ذلك؟ الدليل تساؤل الرئيس إبراهيم رئيسي، حول أنظمة قال إنها تدعم الديمقراطية، بينما لم تُجرِ انتخابات واحدة. وهذا قد يكون منطقيا إلى حد كبير للمقتنعين بالسياسة الإيرانية.

لكن الأكثر منطقية من قول رئيسي، هو كيف تضع الجمهورية الإيرانية التي يترأسها رئيسي كل أوزارها من رجال وعتاد، في سوريا، على سبيل المثال، وهي– أي دمشق– يُعرف عنها الكذب حتى في درجات الحرارة بنشراتها اليومية، ناهيك عن نتائج الانتخابات المعروفة نتائجها مسبقاً!

وما مبررات مساندة مجموعة مارقة في اليمن، انقلبت على الدولة، واستحوذت على الحكم بقوة السلاح القادم من الخارج أحرقت عبره الحرث والنسل؟ وكيف لدولة أن تنظر لسياستها، بعد أن ثبت دعمها لحكومة عنصرية في بغداد لأكثر من عشر سنوات، حين كان نوري المالكي يتلقى الأوامر من مكتب المرشد في طهران؟

وما الذي دفع دولة يتزعمها إبراهيم رئيسي للتشدق بالديمقراطية، بعد أن أسهمت في شق الصف، وخلق فرقة بين مواطني دولة واحدة كان اسمها لبنان، عبر تغذيتها لطرف على أساس مذهبي وطائفي، لأكثر من ثلاثة عقود، بالمال والسلاح الذي ارتد على الداخل كما هو حاصل؟

وما هو مفهوم حرية الشعوب والديمقراطية في نظر من أسهم في جلب تبعية حركة حماس لسلطته، وانقادت نتيجة ذلك للانقلاب على السلطة الشرعية التي يعترف بها العالم بأسره، وتسبب ذلك بشرخ، ألقى بظلاله على تدني قيمة الحجج الفلسطينية، التي ينافح من أجلها الشرفاء لأكثر من خمسين عاماً مضت لاستعادة أراضيهم أو على الأقل جزء منها؟

أتصور أن كل ما سبق من مجموعة أسئلة، يجب أن ينظر لها رئيس الجمهورية في طهران قبل غيره، ليتمكن من تحديد خطابه السياسي الموجه للخارج والداخل، وليس الهروب إلى الأمام من خلال إلقاء التهم للتملص من المسؤولية الوطنية والأخلاقية.

أعتقد أن النظام الإيراني بات يلمس أن أبرز دوافع الإنسان الإيراني للخروج بوجه هذه الطغمة الحاكمة، هو اليأس من تبديد أمواله في صراعات خارجية لا جدوى منها، في ظل الثقة بأن المنبطحين تحت العباءة الإيرانية، سواء دولا أو كيانات أو أفرادا، لم يستفيدوا من أموال الشعب الإيراني، بل إنهم قادوا دولهم وكياناتهم السياسية إلى أرذل قوائم الإنسانية، استرضاء للعمائم السوداء في طهران لا أكثر ولا أقل. وخذ لبنان دليلاً عن هذا القول، فتلك الدولة التي يتحكم حزب الله التابع لإيران، لا يحصل بها المواطن اللبناني بالكهرباء إلا لساعات معدودة في اليوم. والأدلة كثر لكن ذلك يكفي.

لذلك ومنذ اندلاع الثورة في المدن الإيرانية، تحاول الحكومة إلصاق تهم تجييش الشارع ضدها لمن تسميهم «الأعداء»، وهذا كذب في وضح النهار وذر للرماد في العيون، إذ إن الحالة السياسية التي تشكلت بعد صعود نظام الخميني للحكم، أنتجت صورة عامة لدى العالم، أن إحكام القبضة بالحديد والنار هو السائد في تلك الدولة، وأخذت بعض التحليلات ترى أنه يستحيل أن ينقض الشارع على تلك الحكومة، إلا أنه مع الوقت تغيرت المقاييس، وأصيب العالم بدهشة قادت لأن تكون الثورة القائمة هناك هي الحدث الأول الذي يحصد متابعة من كافة بقاع الأرض، وليس كما تفسر الحكومة الإيرانية بأن الاهتمام بهذا الشأن، نظير وقوف بعض الأطراف الدولية وراء ما يحدث في الشارع الإيراني.

يتضح أن النظام الإيراني يخشى استمرار الثورة ضده مع دخول العام الميلادي الجديد، وذلك خوفاً من عامل الوقت، وهو ما سيدفعه مرغماً لتقديم تنازلات أكثر، كالتنازل عن «شرطة الأخلاق»، الذي اتخذته لتهدئة الرأي العام المحلي، الذي قرر مواجهة العصابة الحاكمة، حتى إحداث تغيير للذهنية الرسمية التي لا تتطابق مع الشعبية.

يمكن القول، إن الطبقة الحاكمة في طهران، تعاني من الارتهان لعوامل ثورية ودينية، إذ تتوقع امتلاك حق البقاء للأبد. وهذا جنون العظمة باسمه وصفته. توهموا بذلك، وسرقهم الوقت إلى أن حان موعد كسر جبروتهم المزيف، بعد احتراق تعويذتهم الشيطانية على أيدي البسطاء، في الشارع.