كل ما في الشتاء جميل عدا فيروساته، ففي هذا الفصل تتزايد الأمراض الناجمة عن فيروسات الجهاز التنفسي العلوي والسفلي وتنتشر بسرعة بين الناس. معظمنا مر بنزلة برد ليست كالمعتاد! حمى تكاد ألا تستجيب للمسكنات، تصاحبها آلام تُقعد صاحبها عن عمله، وتعدي بسرعة البرق من حوله من الأهل والأحبة والأصدقاء. في عز أزمة جائحة كورونا، لم نسمع عن نزلات البرد، فمعظم أولئك الذين أصابتهم أعراض تنفسية شُخصوا أنهم مصابون بكورونا، فلماذا؟ هل كوفيد أكل الجو على الفيروسات الأخرى فاختفت من الساحة!

أم اقتاتت عليهم فتضاءلوا أو أنها سلطة التاج! الفيروس الذي اجتاح العالم فقتل من قتل وأوجع من أوجع، فرض على العالم اتخاذ ما يلزم كي يبقوا على قيد الحياة، فكانت كل التوصيات، واختفت الابتسامات خلف كمامات مختلفة الألوان، جنى أصحابها الأموال، وتباعدت المسافات، وبردت العلاقات، وازدهرت تجارة المعقمات، هنا أميل إلى أن تلك التدابير كانت هي السبب في اختفاء أو التقليل من التهابات الجهاز التنفسي ونزلات البرد وأمراض الشتاء الأخرى، خلال جائحة كورونا.

والآن بعد أن أصبحت تدابير السلامة أكثر استرخاء وأقل اتباعاً، شهدت أنظمة الرعاية الصحية بداية مبكرة لبعض هذه الفيروسات، بالذات الفيروس المخلوي التنفسي RSV الذي ينتشر سنويًا عادة في أواخر الخريف وخلال الشتاء، ويصيب غالبًا الأطفال الصغار وكبار السن، ثم يختفي خلال فصلي الربيع والصيف، ليعود ويظهر مجددًا في الشتاء الذي يليه.

ولكن هذا الفيروس اختار أن يبدأ مبكراً هذا العام، فاتخذ من الربيع موعدا، على غير عادته، وكل الأشياء التي تأتي في غير موعدها، تحمل عنصر المفاجأة. الفيروس انتشر سريعاً، وكانت أعراضه قوية، كالحمى الشديدة والكحة وضيق التنفس، واحتاجت عديد من الحالات إلى التنويم في المستشفيات وأقسام العناية المركزة بالذات صغار الرضع والأطفال وكبار السن، حيث يسبب لهم التهابا في الشعب الهوائية والتهابات رئوية شديدة.

عالمياً يتسبب الفيروس المخلوي التنفسي، في نحو 33 مليون إصابة للأطفال دون سن الخامسة، ويدخل المستشفى 3.6 ملايين سنويا بسببه، ويموت ما يقرب من ربع مليون من صغار الأطفال كل عام من مضاعفات العدوى.

وفي كبار السن يؤدي إلى ما يقدر بنحو 159 ألف حالة دخول إلى المستشفى وحوالي 10 آلاف حالة وفاة سنويا لدى البالغين الواصلين عمر 65 عاما أو أكثر.

وما يفسر- ربما - شدته هذا العام، التدابير العالمية المكثفة لمواجهة جائحة كورونا، التي قللت من نسبة الإصابة بهذا الفيروس خلال العامين الماضيين، فضعفت المناعة ضده، فالجهاز المناعي- علميا- يكون مناعته ضد الأمراض الجرثومية بالتعرض لها، فإن أصيب بها كانت الأعراض بسيطة، خصوصاً أنه لا يوجد لهذا الفيروس لقاح موسمي، إلا لفئة معينة من الأطفال الخدج ضمن بروتوكول معين، وكذلك الأطفال الذين لديهم أمراض تنفسية مزمنة أو أمراضا قلبية، وناقصي المناعة، ويُعطى خلال العامين الأولين، ولكن لا يوجد لقاح للآخرين. لذلك فايزر ومثيلاتها من شركات الأدوية تعمل في مختبراتها على تطوير لقاح لهذا الفيروس سيطرح خلال السنوات القادمة للتقليل من مضاعفات الإصابة به، وحتى ذلك الوقت علينا أن نهتم بنظافة اليدين والأسطح واتباع نمط حياة صحي.

الثاني من فيروسات الشتاء وهو الأكثر شهرة، فيروس الإنفلونزا، سيئة الذكر في التاريخ البشري، التي قتلت ملايين البشر حول العالم، في جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، حتى ظهر أول لقاح لها عام 1945 في أمريكا، ولكن في 1947 اكتشف أن هذه الفيروسات تتغير موسمياً، لذلك كان يتعين على العلماء تعديل اللقاح كل عام، وبعد ذلك اعتمدت منظمة الصحة العالمية لقاحا للإنفلونزا الموسمية باستخدام البيانات التي جمعت من مراكز ترصد الإنفلونزا لتطوير لقاح جديد، قائم على السلالات الأكثر سبباً للمرض، وبذلك انخفضت الوفيات، والإصابات الشديدة بفضل اللقاح، لذلك تحرص وزارة الصحة السعودية على توفير اللقاح في هذا الموسم وتحث الجميع على أخذه، حفاظاً على الصحة العامة.

أما كورونا أو كوفيد 19 الذي يظن البعض أنه انتهى وصار حديثا في الماضي، ما زال يعيش بيننا، فيروسا آمنا مطمئنا، يتنقل كيفما شاء، فالناس عادوا إلى سيرتهم الأولى حيث الزحام، وحب الخشوم، وإهمال التعقيم، فوجد الفيروس التاجي ضالته، ليشارك الناس، العيش في هذا الكوكب، رغم أن اللقاح قلل من شراسة الفيروس فإننا ما زلنا نرى حالات في العنايات المركزة، وأخرى يختارها الموت.

علينا وإن تحررنا من قيود الجائحة ألا ننسى الدرس، وأهم ما فيه، المحافظة على نظافة اليدين، وإن كنت مريضاً فاحرص على حياة الآخرين، فهناك من مناعته لا تساعده على المقاومة، فيذهب ضحية عدوى. ومن المهم أن ندرك، لولا أن الله ألهم الإنسان صنع اللقاحات، لانقرضت البشرية، فما من وباء ولا جائحة إلا وكان لها نصيب معلوم من البشر.