أحيانًا تفاجئك بعض الإصدارات الجديدة، وتفرض عليك أن تقطع صلتك بما بين يديك من كتب وكتابات لكي تتفرغ لها وحدها، وهذا عين ما حدث لي مع إصدار جديد هو «أبو حيان التوحيدي.. مختارات من منشورات «كتاب في جريدة»، المختارات من إعداد وتقديم الدكتور جابر عصفور، بعد ساعات من قراءتها والانتقال معها من فكرة إلى فكرة ومن موضوع إلى آخر، أدركت أن الاختيار يكون أحيانًا أصعب من التأليف، لا سيما حين يكون الاختيار من مؤلفات مبدع موسوعي كأبي حيان خاض في أكثر من بحر معرفي؛ فقد كان عالمًا فقيهًا لغويًا فيلسوفًا مؤرخًا أديبًا.. إلخ.

ومن حسن حظه، ومن حسن حظنا أيضًا، أن تلقى مهمة الاختيار على الدكتور جابر عصفور المعروف بحسه الدقيق وحسن اختياره، والذي عايش أبا حيان على مدى العشر سنوات المنصرمة، باحثًا ومتابعًا لأبحاث الندوة التي أشرف على إقامتها لدراسة فكر هذا المبدع العربي وآثاره، لذلك فقد جاءت المختارات ممثلة لمناخات شتى في إنتاج هذا المبدع العربي الذي جنى على نفسه، وجنت عليه ظروفه واضطرته في بعض الأوقات إلى أن يحرق جانبًا من مؤلفاته ليتدفأ بنارها من زمهرير الشتاء، والذي عاش الاغتراب بمعناه العام والخاص، وكانت حياته موضوعاً خصباً للدارسين، شأنها شأن مؤلفاته تمامًا، وربما كانت هذه الحياة الشقية أكثر إغراء لبعض الدارسين من كتاباته نفسها، على أهميتها وفرادتها.

وما لفت انتباهي -في أثناء قراءة المختارات- أننا كنا وما زلنا، نقرأ أبا حيان كأديب، وأحيانًا نقرؤه كفيلسوف، ولا نحاول أن نقرأه كباحث اجتماعي أو مفكر مهموم الاجتماعي في عصره، وهو العصر الذي كانت الحضارة العربية فيه تتهيأ -بأنساقها المختلفة- للغروب.. هل جاء ذلك بسبب اللغة الراقية والأسلوب الأدبي الجميل؟ وهل هما المسؤولان عن إغفال الاهتمام بهذا الجانب من كتاباته -علمًا أنه الأوضح- على رغم ما يكتنف تعبيره أحيانًا من غموض، وما تتركه الإشارات من حيرة؟ أسأل نفسي وأسأل القارئ ما الذي يريد التوحيدي من وراء هذه الإشارة (ضاق اللفظ واتسع المعنى، وانخرق المراد، وتاه الوهم، وحار العقل، وغاب الشاهد في الغائب، وحضر الغائب في الشاهد، وتنكرت العين منظورًا بها ومنظورًا إليها ومنظورًا فيها، فكيف يمكن البيان عن قصة هذا إشكالها؟ وأين الدواء والعلة هذا عضالها؟).

سيقول القارئ المستعجل إن أبا حيان يصف حالة نفسه وما يلقاه من هم وما أصابه من جمود والحق أن هذه الإشارة كفيلة بأن ترسم واقع الحياة في عصره والحالة الاجتماعية التي حار معها العقل وتاه الوهم، إن الأمر أكبر من أن يكون تعبيرًا عن أوجاع الذات، وشكوى أبي حيان هي إذن شكوى الروح المبدعة من واقع اجتماعي شديد الوطأة على الناس، وعلى المبدعين منهم بخاصة ومجتمع تتلوى فيه أحشاء المبدع جوعًا، والقيان والمغنيات يرفلن في الحرير ويرتدين أزهى الثياب وأغلى أنواع الحلي، هو مجتمع متفسخ يوشك أن يسلّم الراية الحضارية لمجتمع آخر، كما أن هذه الكتابات الشاكية الباكية تنطق بأكثر الأفكار الاجتماعية وضوحًا وعمقًا، وقراءتها على أساس أنها تحكي عن الألم العميق الذي عاناه التوحيدي وحده، هي قراءة مغشوشة تحمل من الإساءة إلى هذه الكتابات بمقدار ما تحمل من الإساءة إليه أيضًا.

من المؤكد أن أبا حيان قد وضع إصبعه في كثير من كتاباته على مواطن معتلة كثيرة في مجتمعات عصره، وبعض العلل التي أشار إليها هذا الكاتب الفيلسوف، أو تحدث عنها، كانت قد وصلت إلى حالة يصعب معها الإصلاح، لذلك فقد تفجرت تلك المجتمعات على نفسها وقادت الانفجارات إلى ما حدث بعد ذلك من سقوط المشرق العربي وانتقال أدوائه وعلله إلى المغرب العربي المتمثل -يومئذٍ- بالأندلس، وكانت النتيجة التي يعرفها الجميع، ومن هنا، فقد تكون الكتابات الحزينة للتوحيدي بمثابة الرثاء المتقدم لحضارة تترنح وتتهيأ للسقوط.

1996*

* أديب وأكاديمي يمني «1937 - 2022»