إذا كانت العلاقة بين المكان والإنسان متلازمة ، إذ إن المكان "هو حاضن الوجود الإنساني وشرطه الرئيسي"، فإن الكاتب والإعلامي عدنان صعيدي يتوجه رأسا للمكان الذي مثل على مدى عشرات السنين أحد أهم ملامح التراث المادى من مكونات الهوية وتعبيراتها التاريخية ( العادات والتقاليد والأدب والفنون، والفنون الشعبية والموسيقى ومعتقدات وسرديات، وأمثال، والألعاب ومهارات الطيخ)، ويدون عن حي السليمانية الذي كان قديما جزاء مهما من قب المنطقة المركزية للعاصمة المقدسة ، في كتابه الصادر حديثا ( سليمانية مكة)،ساردا قدرا من تفاصيل المكان ومحمولاته الجمالية والرمزية والتاريخية التي شكلت هوية المكان، وجزء من حركة البشر وتفاعلاتهم حوله، ليتكون نمط عيش يرتب ايقاعه المجتمع بمختلف مكوناته على تعددها.

طبيبتان شعبيتان

لأن هوية المكان وذاكرته ترتكز على السرديات التاريخية المكتوبة عن الأمكنة والأسواق والشخصيات والطرز المعمارية، ووظائف المكان الاجتماعية والاقتصادية والفنية أياً كانت، وبعض شخصياته ورموزه، يلفت صعيدي في كتابه إلى امرأتين ، كانت لهما قيمتهما في المجتمع: (كان في (السليمانية) طبيبتان شعبيتان هما السيدتان نور (منّة) السليماني، و(ماهلا) كانتا من الدايات ومجبرات العظام، وقد تشرفت وأنا طفل بترميم لعظامي على يد إحداهن، وقد كانت إحداهن جارة لنا فهى والدة العم حسن ومحمد سعيد وسراج ونوري شنب وحماة العم صدقة نوري. كل الأسماء التي ذكرتها من حارة السليمانية شاهدتهم عن قرب وأعرفهم وتحدثت معهم، وأعرف مواقع بيوت أغلبهم وأماكن محلاتهم واشتريت منها، فرحم الله من توفي منهم).

عادات اندثرت

هكذا وعلى هذا المنوال من السرد المتوازي ما بين أفقي ورأسي، يستعيد عدنان صعيدي في كتابه (سليمانية مكة) ذكريات أيام فاتت و(حكايات من زمن لن يعود)، العبارة التي مثلت عنوانا فرعيا مضافا لعنوان الكتاب الرئيس، مستعرضا أطرافا وشخصيات وعادات وأمكنة وأحداثا، جرت في واحد من أعرق أحياء العاصمة المقدسة مكة المكرمة، قبل أكثر من 60 عاما. وشملت محتويات الكتاب (إهداء الكتاب من المؤلف لوالده وأخويه أحمد وعبدالله، ثم المقدمة التي قال فيها الزميل عمر جستينية، ملخصا مضمون الكتاب: (ليست مذكرات، وليست رصدا تاريخيا، ولا هي قراءة مشهد، بل نبض كلماتنات برسم الذكريات، شيء من حنين إلى ماض نراه بهيا بمعايير عصرنا).

فيما مهد صعيدي لكتابه بالإشارة إلى بروز فكرة الكتاب بعد عدة مقالات كان يكتبها في مجلة (تجارة مكة) عام 1432هـ، حين كان يختم مقالات بزاوية قصيرة تحت عنوان (زمن لن يعود) يتناول فيها الأماكن والشخصيات والعادات التي اندثرت.

احتفاء بالملك

في خضم تحول التراث المادى إلى جزء من استهلاك الصور الرقمية حول المكان وهوياته وبشره ومكانه ومحمولاته، يتحدث صعيدي في فصل (شخصيات ومواقف) عن فنان الحجاز الكبير حسن جاوا قائلا: (والشخصية الوحيدة التي لم أدرك نجوميتها الفنان الكبير الشيخ حسن جاوا، فقط رأيته في نهاية عمره يجلس كل شهر تقريباً من بعد صلاة العصر إلى أذان المغرب عند دكة الصلاة تحت البيت الذي كنا نسكنه، صامتًا وقورًا تُفرش له فرشة يظل عليها منتصب الجذع متربعًا رغم مرضه).

ومن المواقف يسترجع لحظات احتفاء أهالي مكة بالملك سعود ذاكرا ( تظل الباخرة التي قامت حارة السليمانية بصناعتها وعرضها في (الخريق) احتفاءً بعودة الملك سعود -يرحمه الله- العلاجية عام 1381هـ - 1961م - الحدثَ الذي لا ينساه كل من تجاوز عمره الآن الستين عاما من أهل مكة المكرمة؛ فقد كان احتفاء غنّى فيه كبار فناني ذلك الزمان.

لقد بنيت تلك السفينة على سيارة شحن (لوري) تعود ملكيته للعم زكريا صباغ -يرحمه الله-، وصاحب الفكرة والتصميم والإشراف على البناء هو الفنان العم درويش السليماني - يرحمه الله-، كان يسكن في أعلى جبل (جانشاه) ونراه بلحيته البيضاء الكثة يوميًا الآن، أتذكر الساعات العصيبة التي تم فيها إخراج الباخرة عصرًا إلى موقعها في (الحريق) أمام مسجد الجندراوي (الدندراوي)، يقودها العم أحمد أبيض -يرحمه الله-، بتوجيه من شباب وكهول أهل الحارة محترفي قيادة السيارات الكبيرة.

سوق المعلاة

يتناول الكتاب مواقع وأمكان ذات صلة بالسليمانية، أو تشكل امتدادا لها، ومنها ماله علاقة بعصب الاقتصاد في العاصمة المقدسة، حيث أن العمران يقع أحد احتياجات الإنسان الأساسية، ليتمكن من تأمين بقاء آمن ومريح، فيقدم الفكر لابتكار يسخره لإرضاء متطلبات هذه الحاجة، والعمارة أحد هذه الابتكارات، سواء كان هذا البناء مسجدا أم بيتا أم مصنعا أم سوقا، مثل سوق المعلاة، الذي يشير إليه المؤلف قائلا: (يقع كما أعرفه منذ صغري، وحتى عام 1396هـ - ما بين الخريق جنوبا والجودرية شمالا، وهو سوق متنوع في محتوياته، وتعددت فيه بعض الخدمات العامة، وقد كانت به في فترة ما حلقة الخضار أمام مقر عين زبيدة، وكان الحراج في فترة ما جنوب السوق أمام بائعي (الروس المندي) والسوق يتبع بكل أجزائه الحارة النقاء، أما الجزء الشمالي منه فيتبع للسليمانية، وحدوده شمالًا من جهة الغرب تبدأ بالبازان وشمال شرق من مقر عين زبيدة، وجنوب غرب المسجد المجاور لبيت السيد علوي مالكي ودكان الشيخ مصطفى مستنطق (عمدة النقا سابقا) لإصلاح الساعات، وجنوب شرق من عند دكان صُبغة للعطارة إلى منتصف أشهر المحلات في السوق محلات الدجاج البلدي والبيض، والفوالين، وبائعي العيش والشوريك والتنوري والتميس، والأجبان وملحقاتها والمقلية والسمبوسك، والمقادم والحليب.

مقرأة الفاتحة

وهو المقطع الذي سرد فيه صعيدي وصفا لما اندثر من عادة مكية قائلا :( بعد أن تتم الصلاة على المتوفى في المسجد الحرام يُحْمَلُ النعش إلى مقابر المعلاة على أكتاف الرجال؛ حيث يخرجون من باب السلام ثم إلى المدعى المرتفعة عن مستوى أرض المسجد الحرام، ولا يشارك أهل المتوفى في حمل النعش؛ بل يسيرون في طابور خلف الجنازة واضعين على رؤوسهم المشالح السوداء، يتقدمهم الأكبر سنًا ثم الذي يليه وهكذا، والهدف من ذلك هو إعلام الناس بهوية المتوفى وتقديم العزاء من قبل من لم تمكنه ظروفه من التشييع إلى المقبرة فترى كل من يسير في هذا الطريق يشارك في التشييع وكذلك أصحاب المحلات التجارية، ثم يقدمون العزاء لذلك الطابور خلف الجنازة، ويستمر المُشَيّعون في المشي طلوعًا في المدعى حتى إذا ما قاربت الأرض من الاستواء؛ حيث يوجد مسجد صغير وقف المشيعون بالنعش لثوانٍ حيث ينادي أحدهم لله الفاتحة فسمي هذا المكان كما عرفنا منذ الصغر بـ (مقرأة الفاتحة)، ثم يواصل المشيعون سيرهم إلى مقبرة المعلاة مارين بالجودرية فسوق المعلاة فالخريق، وطوال هذه المسافة يشارك الناس في التشييع والتعزية وطلب الرحمة للمتوفى أو المتوفية، والتي عادة ما يميز نعشها قفص خشبي أو حديدي غير مكتمل الاستدارة يوضع في منتصف النعش، فيعرف الناس ومنهم مؤذنو المسجد الحرام أن من في النعش امرأة. عند الاقتراب من المقبرة يكون عدد المشيعين قد زاد فيتزاحمون على التناوب لحمل النعش طلبًا للأجر.. وعند باب المقبرة يرتفع صوت أحدهم قائلا: إيش تشهدوا عليه؟، فيجيب الناس: من أهل الخير إن شاء الله. ثم يتوجهون إلى حيث المثوى الأخير للمتوفى.

البيوت القديمة

يشير عدنان صعيدي في كتابه لمفهوم الفضاء الاجتماعي ومدى ارتباطه وتأثيره في الذات البشرية، موحيا بطرف خفي لتناغم بين طابع الأمكنة والأشخاص، وما سكن أعماق الذاكرة الجمعية عن "الفضاء المعماري" ، وعلاقتنا به، من خلال البيوت القديمة التي قال عنها :( كانت معظم بيوت الحارة صغيرة، وأكبرها لا يتجاوز أربع غرف، فلا يغرنك ارتفاع المبنى فالبناء من حجر؛ لذلك تجده مقسما على النحو التالي: الدور الأرضي به الدهليز والمقعد. الدور الأول به المجلس والمخلوان - الدور الثاني به المبيت والخارجة. الدور الثالث به السطوح والطيرمة. وفي كل دور (طهارة) أي حمام، وربما بجانبه مروش، أو يكون ذلك من خصوصية الدور الذي به المبيت وبعض البيوت بها مكان ضيق يقال له خزانة، وأغلب البيوت بها مكان صغير بجوار المبيت يسمى (المركب)؛ أي المطبخ وهذه الأوصاف تعد للبيوت المتوسطة الحال؛ حيث يوجد في الحارة أصغر منها ويوجد أيضًا أكبر منها.. لكنها قليلة جدا) .

عدنان صعيدي

*ولد بمكة المكرمة عام 1955

* نشأ وتلقى تعليمه العام بمكة المكرمة.

* بكالوريوس إعلام - جامعة الملك عبد العزيز

* عين مديرًا لإذاعة نداء الإسلام 2006

*مديرًا للبرامج المنوعة بإذاعة الرياض 2011

* أعد وقدم العديد من البرامج الإذاعية وبعض البرامج التلفزيونية

* أعيرت خدماته لشبكة راديو وتلفزيون العرب (ART) لمدة ثلاثة أعوام

* كتب في النقد الإذاعي والتلفزيوني والفني

إصدارات

1 - على الموجة القصيرة

2 على موجة طويلة

3 - على الموجة المتوسطة

4 - حسين العسكري على أثير الوفاء والذكريات