شغلت هذه القضية، قضية المؤرخ المفكر «عبدالرحمن بن خلدون»، ورأيه في العرب على النحو الذي ساقه في مقدمته الشهيرة «مقدمة ابن خلدون».. نقول شغلت هذه القضية أقلام بعض الكتاب والباحثين في العصر الحديث الكبير، وقد أعلنها بعضهم صراحة، ودون أي تردد، أن المؤرخ كان متحاملا على العرب، في رأيه الذي أبداه في المقدمة.. بل إن من هؤلاء الكتاب أيضًا من ذهبت مغالاته إلى حد اتهام ابن خلدون بأنه «شعوبي» يكره العرب ولهذا السبب تحامل عليهم، وإلى آخر ما سنراه ــ مجملا ــ في إلمامنا بهذا الكتاب (العرب وابن خلدون) تأليف أبو القاسم محمد كرو.

ومن الغريب أن نجد الذين تولوا كبر هذا الاتهام كتاب كبار معروفون من أمثال محمد عبدالله عنان، وأحمد أمين، وطه حسين وغيرهم، في حين لم يكن اتهامهم هذا مبنيًا على أي أساس علمي وإنما كان التسرع، وسوء التفسير لحمته وسداه.. ولقد أثبت ذلك بأدلة واقعية بسيطة واضحة تتحدى كل لون من ألوان المكابرة، أثبته كتاب منصفون محققون تصدوا للدفاع النزيه السليم عن الرجل العبقري بحق «عبدالرحمن بن خلدون».

وكان الكاتب الباحث المفكر الأستاذ ساطع الحصري أول من تصدى لهذا الموضوع في كتابه الرائع «دراسات عن ابن خلدون».

ومن الكتاب الباحثين، ممن تصدوا لذلك أيضًا - الأديب التونسي المعروف الأستاذ «أبو القاسم محمد كرو» في كتابه هذا القيم: «العرب وابن خلدون».

وما من شك في أنه من خلال هذا العرض السريع للكتاب سوف يتضح للقارئ أن الاتهام الذي وجه إلى المؤرخ ابن خلدون في هذه القضية إنما كان اتهامًا ظالمًا لا أساس له أصلا وإنما دعي إليه ــ وهذا في أحسن الفروض ــ التسرع كما قلنا. وسوء التفسير.

يقول المؤلف الأديب الأستاذ محمد كرو "إن أول ما أريد بحثه في هذا الكتاب هو: لماذا اخترت هذا الموضوع ؟ ثم ماذا أعني به ؟

أعتقد أن في الجواب عن هذين السؤالين تحديدًا للبحث وإيضاحًا للهدف، ودفعًا لكل التباس من بداية الطريق.

أما عن السؤال الأول: فإنني أحس من زمن بعيد أن ابن خلدون قد ظلم كثيرًا، وأن أشد هذا الظلم قد جاء من أمته التي أدى إليها أعظم الخدمات، وارتفع بأمجادها الفكرية إلى السماء، ويزداد هذا الإحساس قوة إلى حد الألم عندما نرى كبار كتاب العرب المعاصرين يتسابقون إلى الطعن في ابن خلدون، والنيل من مكانته ومن تراثه، وحتى من نسبه ومن شرفه أيضًا.

وما كان هذا ليثير في النفس شيئًا.. لو أنه كان كله أو جله حقًا.. أما وهو منحرف عنه، بعيد عن العدل والإنصاف فإنه يكون ظلمًا جارحًا يرتكبه خيرة أبناء هذه الأمة نحو أعز أبنائها.

ولم يكن هذا الظلم الثقيل ليقع لولا خطأ الناس ــ الباحثون والكاتبون ــ في فهم مقاصد ابن خلدون وخصوصًا في استعماله لكلمة «العرب» في مقدمته المشهورة، مما أدى إلى تحاملهم عليه بغير حق وبلا مبرر علمي، وقد زاد في حملته على العرب في مواضع مستوى التطور الفكري في عصر ابن خلدون، وقيم الأشياء ومصطلحاتها في أيامه، ومن ثم حكموا على آرائه ونظرياته، وعلى مصطلحاته ومفاهيمه بحقائق ومفاهيم عصرنا الحاضر.

أما عن السؤال الثاني وهو: ماذا أعني بالعرب وابن خلدون.. فأظن أن الجواب عنه قد صار واضحًا الآن ذلك فإن ما أعنيه على وجه التحديد هو موقف ابن خلدون من العرب وموقف العرب من ابن خلدون.

إنه لما يحز في النفس أن العرب على الرغم من انتشار مقدمته فيهم، فإنهم لم يدركوا شيئًا من قيمة ابن خلدون إلا في بداية هذا القرن، وبصورة خاصة بعد الحرب العالمية الأولى حينما أصدر طه حسين كتابه عن تراث ابن خلدون بعنوان «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية» ولكن طه حسين ــ مع الأسف الشديد ــ قام يحطم في حماسة وجرأة أكثر ما قاله العلماء عن ابن خلدون وتراثه.. ولم يجد بابًا أو سبيلا للطعن إلا فتحه وعندما لا يجد بابًا إلى ذلك، يضرب حقائق العلم والتاريخ بهواه مستعينًا بمنطقه الجدلي الذي يعرفه عنه قراؤه وتلاميذه وسامعوه.

أما المقدمة نفسها، فإنها لم تنشر كاملة حتى الآن باللغة العربية إلا في بلاد الغرب. أما النسخ التي طبعت في البلاد العربية فإنها جميعًا ناقصة ومشوهة وخالية من التحقيق العلمي المطلوب

على أن أهم كتاب وأصدقه وأوفاه علميًا وتاريخيًا ظهر حتى الآن في البلاد العربية عن ابن خلدون وتراثه العلمي هو الدراسات العظيمة التي كتبها ونشرها العلامة الكبير ساطع الحصري، فهي بحق تقوم على منهج صحيح وهي خالية من الشهوات والعواطف سواء منها ما يكون مع ابن خلدون أو عليه ويأتي بعد ساطع الحصري، كتاب الأستاذ محمد عبدالله عنان وإن تحامل على ابن خلدون في نواحٍ معينة واتجه في بحثه اتجاهًا إقليميًا يخالف أمانة العلم، ومنهجه السليم، ومع ذلك فإن عمله ثاني عمل بعد جهود الحصري القيمة.

ولكننا عندما نقيس بين ما كان ينبغي أن يوجه من الاهتمام والعناية لابن خلدون وتراثه وبين ما حصل بالفعل، نجد الفرق هائلا والجهود قليلة، ثم نشعر بخيبة أليمة وألم قاهر عندما نجد العرب زيادة عن تأخرهم في نشر آثاره وعدم تقديرهم المباشر لعبقريته ومركزه الكبير من تراثهم، ومن الفكر الإنساني نجد أن اهتمام العرب به محدود جدًا، وأن ما وجه إليه من نقد قائم على الهوى والعاطفة أكثر من التقدير العلمي لآثاره ونظرياته.

1968*

* كاتب وشاعر سعودي «1905 - 1991».