النعيم قضاء محتوم على المنعمين، والشقاء قدر مقدور على الأشقياء، كما أن السعادة قدر مقدور على السعداء.

لا أريد تلك الفرقة الإسلامية المعروفة من فرق المتكلمين وإنما أريد أسرة مصرية بائسة كنت أنسيت أمرها، حتى كان هذا الوباء الذي ألم بمصر فذكرتها ذكرًا متصلًا ملحًا، وحاولت أن أخلص من التفكير فيها فلم أستطع، فأردت أن أتسلى عن ذكراها بالتحدث عنها لعل هذا التحدث أن يخرجها من ضميري الخاص إلى الضمير العام، فيكون في ذلك تخفيف العبء وتفريج الكرب، وشفاء لبعض ما في النفس. والهموم الثقال تخف إذا شاركت في حملها ضمائر كثيرة، ولم يقصر ثقلها على ضمير واحد مهما يكن قويًا، فكيف إذا لم يكن له حظ من قوة أو أيد !

وأردت أن أهدي حديث هذه الأسرة البائسة إلى المترفين المنعمين في الأرض، لا لأبغض إليهم الترف بل لأزينه في قلوبهم، ولا لأصرفهم عن النعيم بل لأرغبهم فيه ترغيبًا وأدفعهم إليه دفعًا. فقد تحدث الحكماء منذ الزمن الأول بأن الرجل الحازم خليق ألا ينظر إلى الذين يتفوقون عليه، فتملأ قلبه الحسرة ويثقل نفسه الهم، وأن ينظر إلى من دونه من الناس ليعرف ما أتيح له من حسن الحظ، ويحمد رفـق الله به، ورعاية الله له، وإسباغ نعمته عليه، ويستمسك من أجل ذلك بما قسم له من الخير: ويستمتع من أجل ذلك بما قدر له من النعيم. وأنا أبعد الناس عن التفكير في أن أزهد المترفين في ترفهم وأرغب المنعمين عن نعيمهم، لأني أعلم من جهة أني لن أبلغ من ذلك شيئًا إن أردته مهما أنفق من الجهد، ومهما أبرع في تدبيج القول وتنميق الحديث، ولأني أعلم من جهة أخرى أن ترف المترفين إنما يأتيهم بحكم القضاء المكتوب والقدر المحتوم، وليس من سبيل إلى تغيير القضاء، أو تبديل القدر أو إلغاء سنة الله في الناس، فالله قد خلق الناس على ما نراهم من هذه الفرقة فيما بينهم، يترف بعضهم حتى يطغيه الترف، وينعم حتى يبطره النعيم، ويحرم بعضهم حتى يضيق به الحرمان، ويشقى حتى يمجه الشقاء... ولأني أكره بعد هذا وذاك أن أكون كالثعلب الذي حاول أن يصيب العنب، فلما لم يتح له ذلك عاب العنب وزعم أنه فج بغيض.

وقد خطر لي أن أتخذ لهذا الحديث عنوانًا آخر، هو أم تمام. لا أريد به زوج شاعرنا العظيم، وإنما أريد به زعيمة هذه الأسرة المصرية البائسة، فقد كانت تكنى بأكبر أبنائها.

وخطر لي أن أهدي حديث هذه الأم وبنيها الثلاثة إلى البائسين المعذبين الذين مسهم الضر قبل الوباء، وألح عليهم بعد الوباء حين تخطف الموت أبناءهم وآباءهم وأخواتهم وعائليهم وتركهم نهبًا للشقاء لا يدرون كيف يتقونه، ولا كيف يحتملونه، ولا كيف يخلصون منه، لا لأبغض إليهم حياتهم البائسة وعيشهم النكد، فما ينبغي أن تبغض إلى البائس بؤسه، ولا أن تكره إليه شقاءه، وإنما ينبغي أن تحبب إليه البؤس، ليتحمله وليزيد منه إن استطاع، وأن تزين في قلبه الشقاء، ليصبر عليه ويمعن فيه إن وجد إلى الإمعان فيه سبيلا، فالبؤس قضاء محتوم على البائسين، كما أن النعيم قضاء محتوم على المنعمين، والشقاء قدر مقدور على الأشقياء، كما أن السعادة قدر مقدور على السعداء. والرجل الحازم العازم الحكيم خليق أن يرضى بالقضاء المكتوب، والقدر المحتوم، يحتمل الخير غير زاهد فيه، ويحتمل الشر غير ساخط عليه.

قد يقال إن شؤون مصر قد تغيرت، وأن حياة مصر صلحت فيما يقرب من نصف قرن، ولكن شؤون مصر التي تغيرت، وحياة مصر التي صلحت، لم تمنع الوباء من أن يجدد عهده بزيارة مصر، فمن يدري! لعل تغير الشؤون وصلاح الأحوال ورقي النظام الاجتماعي والسياسي، يمنع من أن توجد في قرية من قرى مصر العليا أو من قرى مصر السفلى، أو قريبًا جدًا من القاهرة، أسرة معتزلة كأسرة أم تمام.

1968*

* أديب وناقد مصري «1889 - 1973»