أما عن السؤال : ماذا قال ابن خلدون عن العرب؟ فإن الجواب عليه نجده في كلام ابن خلدون نفسه.. ولكن قبل أن نستعرض شيئا من كلام ابن خلدون أود أن أقدم خلاصة لآرائه كما يرويها الأستاذ محمد عبد الله عنان، لنرى بعد ذلك كيف يفسد التلخيص أحيانا آراء المؤلفين، ويحرفها عن أغراضها، يقول الأستاذ عنان «وحديث ابن خلدون عن العرب طريف شائق رغم ما يطبعه من شدة وتحامل، فالعرب في نظره أمة وحشية تقوم فتوحهم على النهب والعبث..ولا يتغلبون إلا على البسائط السهلة، ولا يقدمون على اقتحام الجبال أو الهضاب لصعوبتها، وإذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب.. لأن طبائعهم من الرحلة وعدم الانقياد والخروج على النظام منافية للعمران، ولأنهم أهل تخريب ونهب يخربون المباني وينهبون الأرزاق ويفسدون الأعمال والصنائع، وهم أبعد الأمم عن سياسة الملك لأنهم - وهنا أرجو الانتباه وزيادة الملاحظة لأنهم لبداوتهم وخشونتهم أكثر شعورا بالاستقلال والحرية، لا يدينون لرئاسة أو نظام، وسياسة الملك تقتضي النظام والخضوع والانقياد».

ويواصل الأستاذ عنان كلامه فيقول: «ويستمر ابن خلدون فى حملته على العرب في مواضع أخرى من مقدمته»، ومعنى هذا أن عبد الله عنان يعتقد أن ابن خلدون يدلي بآرائه وفق حملة منظمة ومقصودة منه ضد العرب، ويعتقد عنان أيضا أن ابن خلدون بربرى بالرغم من انتسابه للعرب، وأن ذلك هو السبب في هذا التحامل، بل سره الكامن فى نفس ابن خلدون.

وحتى لا أتهم بالتعصب فإني أترك عالما مختصا يتولى الرد علـى هذه المزاعم الباطلة، فاستمعوا إلى الأستاذ ساطع الحصري، وهو يفند هذه الأباطيل بكلام طويل قائم على الحوادث التاريخية، ولكني أنقل إليكم نهايته فقط، قال الأستاذ ساطع: «ولكن كل ما هو معلوم وثابت عن حياة ابن خلدون لا يبرر مطلقا نشأته بالبربرية، لأنه نشأ في بيت علم هاجر من الأندلس إلى تونس، وحافظ على مكانته العلمية جيلا بعد جيل، ومن المعلوم أن تونس كانت ولا تزال بعيدة عن البربرية. هكذا رد الأستاذ ساطع على اتهام عنان لابن خلدون بالنشأة البربرية!

والآن لنتصفح مقدمة ابن خلدون لنرى ماذا يقول هو نفسه عن العرب، لكي نتبين صحة هذه المزاعم التي حشره عنان حشرا، ولنبدأ بالفصل الذي يتضمن أقسى الأحكام وأعنف الحملات على العرب، ولنترك أيضا الأستاذ ساط الحصري يناقش ابن خلدون.

فأولا يقول ابن خلدون إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، ولتمعن النظر فى الأدلة التي يذكرها لتعليل وتأييد رأيه هذا:

... فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقضة للسكون الذي به العمران ومناف له، فالحجر.. مثلا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي، للقدر، فينقلونها من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك. والنشب أيضا إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليهم.

وبديهي أن مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الرحل الذين يعيشون تحت الخيام..

ويمضي المؤلف في الإشارة إلى بعض ما ذكره ابن خلدون في هذا الصدد إلى أن يقول:

مما لا شك فيه أن الفرق بين «العرب» و«الأعراب» كان غير واضح تمام الوضوح منذ فجر الإسلام.. فإن كلمة العرب كانت تشمل الأعراب، فهى - إذن - أعم منها.. وهذا الخليفة عمر يقول: «العرب مادة الإسلام، وهو بلا شك إنما يقصد بالدرجة الأولى، هؤلاء المحاربين الأقوياء وهم سكان البادية، لكن مما لا شك فيه أيضا أنه قصد معهم سكان الحواضر.

وقد أجمع المؤرخون والباحثون المعاصرون من أوروبيين وغيرهم على أن كلمة «عرب»، كان استعمالها الأول بمعنى البدو، وأن هذا المعنى قد رافقها في جميع العصور التاريخية، وأن معنى الحضر لم يتصل بها إلا في فترة قليلة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الأموية، وأنها حتى في هذه الفترة لم تتجرد من معناها الأصلي، بل كانت تطلق على البدو والحضر في وقت واحد، وبعد هذه الفترة كان استعمالها غالبا بمعنى البدو.. وقد استمر هذا إلى العصر الحديث ولم تأخذ حدود معنى الأمة - استعمالا دقيقا - إلا عندما دخلت معاني هذه الكلمة «الأمة» ومفاهيم الوطنية والقومية إلى أفكار المثقفين من أبناء العرب المعاصرين.

ويستشهد المؤلف بما ذكره برنارد لويس أستاذ تاريخ الشرقين الأدنى والأوسط في جامعة لندن حول كلمة «عرب» فى كتابه «العرب» فى التاريخ حيث يقول: «واصل كلمة عربي ما يزال غامضا على الرغم من أن علماء اللغة قد قدموا تفسيرات تختلف جودة وقبولا.. وقد تولد ارتباط المعنى بالبداوة من أن العرب أنفسهم على ما يظهر استعملوا الكلمة منذ زمن قديم ليميزوا البدوى مـــــن سكان المدن والقرى الناطقين بالعربية، بل وما يزالون يفعلون ذلك إلى حد ما، حتى يومنا هذا.

.. ومنذ العصور السياسية المتأخرة وما بعدها ارتدت كلمة (العرب) إلى مدلولها القديم من بدو أو رحل، وأصبحت في الحقيقة مصطلحا اجتماعيا قبل أن تكون مصطلحا جغرافيا بشريا.. وتستعمل في كثير من تواريخ الحروب الصليبية الغربية لتدل على البدو فقط.

وينتهي البحث بهذا العالم الغربي الإنجليزى إلى «ابن خلدون» فيحسن فهم مقصده من كلمة «العرب»، ومن استعماله لها أكثر مما فهمها هؤلاء الكتاب العرب الكبار بل ويحسن تصوير حالة المجتمعات العربية المعاصرة لابن خلدون، وكيف كانت تستعمل هذه الكلمة، وغيرها من مصطلحات المجتمعات البشرية فى عصر ابن خلدون، فيقول «ويستعمل ابن خلدون المؤرخ العربي من علماء القرن الرابع عشر الميلادى» والذي كان هو نفسه حضريا من سلالة عربية، الكلمة - عادة - بهذا المعنى «البدو» إلى أن يقول «برنارد لويس»:

وبينما بقيت جميع هذه الاستعمالات المختلفة إلى يومنا هذا دارجة في قرائن مختلفة ولد استعمال جديد... تحت تأثير الغرب، وأصبح فى السنوات الخمسين الأخيرة يتزايد أهمية، وهو الاستعمال الذى يعتبر الشعوب الناطقة بالعربية «أمة»، أو مجموعة من الأمم الشقيقة بالمفهوم الأوروبي، توحدها بلاد مشتركة، ولغة مشتركة وثقافة مشتركة وتشوق مشترك إلى الاستقلال السياسي.

1968*

* كاتب وشاعر سعودي «1905 - 1991».