لأحد أقسام الطوارئ بمستشفى مركزي، حضر مريض لديه اشتباه نزيف داخلي، أدخل لغرفة بها أجهزة طبية تتجاوز قيمتها مليوني ريال، أغلبها قد لا تتوفر حتى بمستشفيات متقدمة في شرق أوروبا على سبيل المثال، وفور وصول المريض استقبله طبيب سعودي لا يتجاوز الـ30 عاما، خريج «برامج وزارة الصحة للابتعاث الخارجي»، أي أن دراسته كلفت مالايقل عن مليوني ريالا، وخلال أقل من ربع ساعة قام الطبيب بعمل استثنائي- كما تعودنا من الأطباء السعوديين- فحص كامل للمريض وتواصل مع طبيبه المختص في مستشفى متقدم، وطلب له دواء فوريا من الصيدلية تكلفته تزيد على 120 ألف ريال كل 24 ساعة حتى يتوقف النزيف. أي أن المشهد هنا فقط كلف ما يقارب 5 ملايين ريال «بالساهل». وبعد وصول الدواء حضرت ممرضة «آسيوية» وحاولت أن تجد وريدا للمريض ولم تستطع، فتركت الإبرة وذهبت لمريض آخر، ليمضي المريض 4 ساعات قبل أن تصله زميلتها الأخرى لتحاول مجددا، والسبب أن هناك 12 مريضا تحت مسؤولية ممرضتين فقط، ناهيك عن أنهما تعملان منذ 10 ساعات تقريبا، الجهد الذهني والبدني جعلهما شبه متبلدات حسيا وليستا محترقتين وظيفيا فحسب، بل أعتقد أنهما وصلتا مرحلة التفحم الوظيفي والجسدي والنفسي، أي أن تلك الـ5 ملايين ذهبت هباء منثورا بسبب ممرضة راتبها الشهري لا يتجاوز 4 آلاف ريال.

وبعد الشكوى قال مسؤول الموارد البشرية بالمستشفى إنه استقبل 11 طلب استقالة لممرضات من ذلك المستشفى فقط، خلال شهر واحد، وقد تصل طلبات الاستقالة من ممرضات أخريات في تلك المنطقة لما يفوق الـ50 حالة في بعض الأشهر أحيانا. وبسؤاله عن الأسباب قال: إن إحداهن عرض عليها مستشفى خليجي مرتب 11 ألف ريال مع توفير وظيفة مناسبة لزوجها في مقهى المستشفى، والأخرى تريد العمل بأحد مستشفيات بريطانيا بمرتب يقارب الـ18 ألف ريال، أي أن عملهن بالسعودية مجرد محطة ترانزيت لكسب الخبرة على أكثر الأجهزة تطورا، ومن ثم يذهبن بتلك الخبرة ليستفيد منها غيرنا. فكان السؤال وما الذي يحوجنا لهن؟ إن كانت الرواتب القليلة التي يقبلن بها، فإن ذلك المبلغ جملة سيغادر اقتصاد مملكتنا كليا بتحويله، بينما إن كان شابا أو شابة سعودية ولو بمرتب 14 ألف ريال فلن يغادر اقتصاد بلادنا ريال واحدا منه. والمشكلة الأخرى أن الصحة لا توظف في غرف الطوارئ إلا تخصصات (تمريض)، بينما يحادثني شاب سعودي تخصص «طب طوارئ» تخرج منذ عامين ولم يجد وظيفة حتى في القطاع الخاص، رغم أن صلب دراسته وتطبيقه هو التمريض مع الإسعاف والإنقاذ، فلماذا لا يتم توظيفه وزملاؤه على الأقل في أقسام الطوارئ، وإبقاء الممرضات الشحيحات في الأقسام الداخلية للمستشفى على سبيل المثال. تخيل كمية الهدر المالي بسبب شح التمريض، يحضر المريض يشكو علة، ليزداد مرضه مرضا، فينضم لقائمة «مرضى شح التمريض».