ما الحنين؟ أليس هو قوة عجيبة مجهولة المصدر؟! أليس هو ما يجعل بعض اللحظات لا تطاق، كلما حاولنا التخلص منها عادت أقوى وأوضح صورةً وأحد ألمًا؟! أليس هو ما يشعل بدواخلنا الرغبة بالغرق ما بين أمواج الماضي، رافضين أي طوق للنجاة... نتوق شوقًا ونرتعد خوفًا من ماضٍ كان صرحًا وبات حلمًا؟!

يُنظر إلى الحنين على أنه تجربة حلوة ومرة، فقد نشعر بشوق عميق لما كان يومًا، أو حزنًا عميقًا لأن الأشياء قد تغيرت أو ربما أضعناها، ولكن بغض النظر عن المشاعر التي يجلبها، فإن الحنين هو أحد أجمل حامل لما كان... لأجزاء من حياتنا يمكننا دائمًا تذكرها ونقدّرها، بغض النظر عما قد تحتويه.

يحمل الحنين عواطف جياشة، وعندما نعيشه، يمكن أن يأخذنا في رحلة غير متوقعة، إلى كل ما يحمله الماضي من آلام وأفراح، فيسلط الضوء على كل اللحظات القصيرة، تلك التي أدمعت الأعين أو رسمت زهرًا على المباسم، تلك التي شكلت طفولتنا، وعائلاتنا، وصداقاتنا... ذكريات فجأة تعود إلى الحياة حبلى بالمعاني وربما الدروس، لكن لدينا حق الاختيار، حتى وإن نبشنا جزءا ووجدنا أنه جر وراءه أجزاء، نحن قادرون - إن تدربنا بما فيه الكفاية - على تحويل الألم إلى أمل.


قد يكون من الصعب التخلي عن حنيننا للماضي، يؤلمنا أن الأشياء لا يمكن ولن تكون أبدًا كما كانت، ولكن... أليس هذا هو الجمال، إنه يذكرنا بتقدير اللحظة التي نحن فيها، واللحظات التي مرت، وألا نضيع الاستفادة القصوى من كل منها، إن قوة الحنين تمنحنا شعورًا بالراحة والسلام، حتى في أوقات الانتقال وعدم اليقين.

عندما يجتاحك الحنين، حاول أن تستسلم له، اعتز بالذكريات واسترجع العواطف، التي يثيرها بداخلك، نعم لا يمكننا العودة إلى الماضي وزيارته كحديقة أو بلد أو شارع، ولكن بالحنين يمكننا دائمًا أن نجد طريقة للاستمتاع به وتقديره لما كان عليه، ولا يزال بإمكاننا العثور عليه بين طياته، لذا تذوق كل لحظة، واحتضن حنينك... احتضن تلك اللحظات التي تجعل الحياة مميزة، ولكن لا تجعل منه السجّان!

في حين أن الحنين يمكن أن يكون مصدرًا للذكريات السعيدة، قد يحملنا بدوره إلى شطآن كسرتنا وتركت مرارة في الروح وجروحًا في القلب، تبث حزنًا متأصلًا عند التفكير في تجارب قاسية... وبالرغم من أننا ندرك تمامًا، أنه ليس بالإمكان العودة وإصلاح ما كان، يبقى تذكيرٌ بأنه ما زال هنالك فرص لتشكيل المستقبل إن شئنا.

قد يحمل الحنين الشعور بالخسارة، سواء كان ذلك في الحاضر أو الماضي، وبأسلوب ساخر يذكرنا، إلى أي مدى يمكن للحياة أن تتحرك بسرعة، وتتسرب عقارب الزمن من بين أيدينا، لكنه بنفس الوقت تحدٍ، كي نتعلم قبول كل ما تغير في حياتنا، رغم صعوبة تحقيق ذاك القبول.

نعم هنالك أحايين نجد أن الحياة تفصل ما بين اليدين قبل أن تلتقي... وأحايين تضيع الأحرف قبل صياغة الكلمات... وأحايين يضيع الصوت في جوف الهواء... وأحايين تأتي النهايات قبل البدايات... وأحايين يبدو الأمر وكأن الظلام قد انتصر، وأن احتمالات العثور على طريقة للعودة إلى النور تبخرت، ولكن بغض النظر عن الكيفية، التي قد تبدو بها الحقيقة القاتمة، وبغض النظر عن مدى ضعف حبل الأمل، فإن الإجابة هي نفسها دائمًا - لا تستسلم أبدًا، واقنع ذاتك بأنك رغم التعثر قادر على مواجهة الشدائد.

على الرغم من مدى صعوبة الحياة ومدى الوحدة، التي يمكن أن تشعر بها في لحظات معينة، وعلى الرغم مما قد يجتاحك من الحنين إلى ما مضى، وأيام كنت فيها سعيدًا أو قادرًا، تذكر أنك لست وحيدًا أبدًا، فهنالك أناس من حولك يهتمون بك، ويريدون المساعدة في دعمك وإعطائك الأمل، لذا، حتى في أحلك الأوقات، لا تنتكس وتتقوقع على ذاتك... لا تنس التواصل مع من هم على استعداد للمساعدة، يمدون لك حبل النجاة، يحملون الأمل، لو أنك فقط مددت يدك، اغتنم الفرصة للعثور على هذا الأمل، من خلال من هو جاهز لأن يوفر لك القوة والشجاعة اللازمة، للتعامل مع صعوبات الحياة، حتى وإن غمرتك مشاعر الاستسلام، تواصل مع أصدقائك... مع عائلتك... مع أحبائك، دعهم يساعدونك في أحلك لحظاتك. تذكر، مع الدعم الصادق، كل شيء ممكن، لا تغرق في بحور الحنين، وتنسى بأن لك غدا ينتظرك لأن تعيشه!

بالنهاية يمكن أن يكون الحنين نعمة، كما يمكن أن يكون نقمة، ولكنه كما يغرس فينا القدرة على التذكر والتفكير، يغرس أيضًا ألم قبول أن بعض الأشياء، لا يمكن أن تكون أبدًا كما كانت، ومع ذلك، لا يزال هناك عزاء في معرفة أن الحنين، هو أيضًا علامة على المرونة وقدرتنا على العثور على الجمال، حتى في أحلك لحظات الحياة، فالحنين عاطفة يمكننا أن نحملها معنا أينما ذهبنا، مما يسمح لنا بالاعتزاز بالأوقات السعيدة، وحمل هذه الذكريات في قلوبنا لسنوات قادمة.

نعم قد تكون الحياة أحيانًا وكأنها مليئة بالعقبات، التي تبدو وكأننا لن نتمكن من تجاوزها، ولكن البقاء إيجابيًا والإصرار على المضي قدمًا خطوة بخطوة، يمكن أن يضمن لنا أن نشق طريقنا في النهاية إلى الجانب الآخر، لذا حاول تهدئة الضوضاء في رأسك، وركز على الذكريات السعيدة، تكتسب القوة والحكمة... غذِ روحك وطور قدراتك، وتواصل مع أحبائك، ولا تكن حبيس ماضٍ أو مهدر غدٍ، واعلم بأن الحياة ليست سوى حنين وأحايين.