في لحظة فارقة من لحظات هذا الزمن المتفجر بسرعته في كل شيء، متزامنًا مع تقلباته الحادة التي لا خطام لأسبابها وعللها، كما هو متقرر لدى كثير من الاقتصاديين الأمريكيين عندما بحثوا أسباب تقلبات الأسهم في الأسواق فتعددت النظريات لفهم تلك التقلبات الجنونية فأووا إلى أن الأسباب تكمن في نظرية العشوائية (Randomness)، فلا يمكن إيجاد التفسير الحقيقي لتلك الارتفاعات الجنونية. وتلك نظرية تفسيرية من النظريات التي بحثها مرجحوها، وهو ما تبين لي بعد عناء بحث وطول تأمل في مجال التخصص، وهي في نظري يمكن تنزيلها على ما يحدث في عصرنا من تصرفات جنونية لا يمكن فهمها من خلال ظواهرها الشكلية دون الولوج في أعماقها وكشف أسرارها، لأن الأسباب يتوجب أن تكون معقولة ومفهومة، أما ما كان خارجًا عن المألوف فهو خارج عن نطاق دائرة العلل والأسباب، ويكمن وجوده في المسارات العشوائية التي تبقى بلا تفسير، كما هو حال كثير من الظواهر التي نراها في حياتنا ولا نستطيع الوصول إلى تفسيرها فتبقى عائمة في نطاقات العشوائية غير المحاط بها ماديًا أي وجودها بالفعل أو وجودها بالقوة.

وتلك اللحظة الفارقة التي كانت سببًا للمقدمة هي وصول اللاعب (كريستيانو رونالدو) والتحاقه بنادي النصر. تأملت ما يدور في الإعلام من حراك يكاد يكون جنونيًا وكأنما ديكارت قد حل وألقى بظلاله على المجتمع فأصبح أفراده ديكارتيين من حيث اللا قابلية الاعتقادية، وهذا بحث عميق بحاجة إلى دراسة ماذا أنتجت المسارات العقدية التي كانت تُصب على أفراد المجتمع صبًا ليل نهار!!

وهل كانت مخطئة في جعل توجهات المجتمع دينية محضة دونما مدنية وثقافة عولمية. فقد ثبت باليقين أننا الآن بحاجة إلى معرفة تلك الثقافات والحضارات، كي نتأقلم مع كل اللحظات الفارقة.

ولا شك أن وصول (رونالدو) كان ولا يزال وسيظل مادة إعلامية دسمة تكاد تطغى على كل أخبار الدنيا. تذكرتُ أواخر السبعينات الميلاية وقدوم ريفلينو اللاعب البرازيلي الذي كان ضمن الفريق الذي صعق الفريق الإيطالي عام 1970م، وكانت له أهداف خيالية مثل هدفه في تشيكوسلوفاكيا، ثم شاهدنا ريفلينو في كأس العالم بالأرجنتين 1978.

كان وجود ريفلينو شيء لا يصدق آنذاك في العصر الذي كنا شهودًا عليه، فقد قلب الموازين في كرة القدم السعودية، وكان حضور هذا اللاعب حين يتنقل نادي الهلال في المدن الرئيسة في المملكة فرصة ذهبية لنا يوم كنا سكارى بكرة القدم، فلم يكن آنذاك أي شيء مما نراه من أدوات وعناصر اللعب واللهو مما يتمتع به أبناء هذا العصر الذين وجدوا كل شيء متهيئًا لكل عناصر النجاح.

بيد أن خللًا كبيرًا لا يزال يقف أمام توافق إرادات من توفرت له هذه الفرص وبين القدرة التي تكمن في تلك الجمادات التي لا يمكن أن تتحرك إلا بروح وذات مفكرة، وحينما أقول إننا كنا سكارى بكرة القدم فهو قول ليس مبالغًا فيه بل هو أقرب إلى الحقيقة بل لعله شابه شيء من التقصير.

كانت كرة القدم المتنفس الوحيد لجيل ذلك العصر الذي كنت أتنفس هواءه، كانت كرة القدم في المدرسة وفي الشوارع، كانت ولا تزال هذه الذكريات عالقة في الأذهان لا تكاد تفارق الأجساد في لحظة وعند كل إطلالة زمن جديد أو حدث يمت بصلة لتلك اللعبة، بل إن كرة القدم وذكرياتها تُحتم عليَّ أن أبين أنها كانت تُلعب في بيوتنا الصغيرة بين الإخوة والأخوات، ولا شك أن ذكرى لعبي مع أختي (بهية) التي تكبرني سنًا لا تزال عالقة في ذهني، من الذكريات التي تأسرني إذا ما تذكرتها وتحبس أنفاسي حسرةً على زمن جميل كان بسيطًا في هيئته، فلقد كانت البراءة في أفراد المجتمع هي المتأصلة بشكل عميق جدًا لا يعلمه إلا من رآه وعاصره، ولعلي لا أُبالغ إذا ما قلتُ إنه بالمقارنة بما نراه في اللحظة الآنية أنه كان زمن ملائكيًا لا تبرح القلوب والعقول تتذكره بكل جمالياته ونقائه.

كان مجيء ريفلينو حدثًا عالميًا آنذاك، بيد أن الفرق يكمن في اختلاف العصرين وما تخللهما من أدوات وعناصر أصبحت تقلب الموازين، بل إنها تجعل التصورات مختلة وغير دقيقة إذا ما تم طرح فكرة اختلاف الأزمنة وتغير العناصر ووجود أدوات لم تكن موجودة، فهذه اللفتة يجب أن تكون حاضرة في عمق كل أحد سواءً في المؤسسات العلمية أو القضائية، وذلك أن مراعاة هذه التغيرات هي حقيقة يلمسها كل أحد وإدراكها من ذوي العقول هو أولى وأعظم. لذا فإن قاعدة أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا

وقاعدة أن الأحكام تتغير بتغير الظروف، هي من إبداعات الفقهاء والأصوليين إلا أن تنزيلهما وفهمهما جعلهما مقصورتين على جزء بسيط جدًا من التصرفات لدى كثير من التيارات الدينية غير المراعية لعمق تينك القاعدتين.

وهذا التوجه حجب المجتمع من الاستفادة من هاتين القاعدتين بسبب عدم إدراك أن العلل مناطة بالوجود والعدم مع معلولهما، والتغير بين الزمانين حقيقة مطلقة يجب الإيمان بهما والعمل من خلالهما للانطلاق نحو التطور والتنمية. أما حجب وقصر القواعد على بعض الأشياء دون بعض بحجة الحفاظ على قواعد ومقاصد الشريعة فهو خلل في فهم قواعد ومقاصد الشريعة.

فهذا الحدث العالمي وقبوله هو تصرف يدل على أن التغير - في البنى والرؤى والتصورات - عمل فعلي بالقاعدتين دونما حاجة إلى من يُقرر العمل بهما.