سأبدأ هذا المقال مؤكدا على أنني لا أفضل أي فرقة إسلامية على أي فرقة أخرى. ولا أكره أن تتوحد الفرق الإسلامية في مشتركات عامة وأساسية لكي تحافظ الشخصية المسلمة على تماسكها. أكثر من هذا فإنني أعي الضرر الذي أصاب الثقافة العربية الإسلامية من هذا التفرّق، لكن في الوقت ذاته فإنني أثمن مكاسب ثقافية إسلامية كبرى ما كان لها أن تتحقق بدون هذا التفرّق؛ أي ما كان لها أن تتحقق في الوحدة الدينية. وكما يقول ت. س. إليوت في كتابه «ملاحظات نحو تعريف الثقافة» فإن الوحدة الدينية مثلها مثل الانقسام الديني يمكن أن تتفق الوحدة أو الانقسام مع ازدهار الثقافة أو انحدارها.

وفق ت. س. إليوت يستدعي تكوين الدين تكوين الثقافة، ولا يمكن الفصل بينهما. وحين ينقسم الدين إلى فرق فإن هذه الفرق الفرعية تكون هي بدورها ثقافة. وهنا يجب ألا ننظر إلى هذه الفرق والثقافة التي ولدت عنها من منظور ديني؛ لأننا لن نجد إجابة إلا في حدود (حق/باطل، صحيح/خطأ، إيمان/كفر). أقول يجب ألا ننظر إليها من منظور ديني بل من منظور اجتماعي، وهنا لن يعود الأمر صحة أو خطأ أو حقا أو باطلا أو إيمانا أو دينا، بل بكونها فرقة دينية كونت ثقافة لا تختلف عن أي ثقافة غيرها بحكم تكوينها الإنساني. أصف (بالتكوين الإنساني) لأن هذا التكوين يطرح ثلاث مجموعات من الأسئلة:

- المجموعة الأولى: ما الفرق الدينية من منظور اجتماعي؟ ما الفرق الدينية من المنظور الثقافي ومن المنظور السياسي؟ ما مكونات هذه الفرق الجوهرية؟ كيف ترتبط بعضها ببعض من جهة، وبالوضع الثقافي والاجتماعي والسياسي من جهة أخرى؟ ما دلالة ظهورها في بيئات ثقافة معينة؟.

- المجموعة الثانية: كيف تتأثر الفرق الدينية بمرحلتها التاريخية؟ وكذلك كيف يتأثر مؤسس الفرقة أو مؤسسوها بالمرحلة التاريخية؟ ما ملامح المرحلة التي شكلت هذه الفرق وتشكلت بها؟.

- المجموعة الثالثة ما نوعية الجماعة الأولية التي آمنت بأفكار الفرق؟ ما نوعية الجماعة التي سادت بعد موت مؤسسيها وجماعتهم الأولية؟ كيف سادت بعض الفرق؟ ولماذا؟ لماذا اختفى بعض الفرق؟ كيف تتكون هذه الفرق أول مرة، وبأي أساليب؟ ما دلالة أن تسود هذه الفرقة بالذات أو تلك ولماذا؟ هل تستمر الفرق في مراحل تاريخية أخرى أم أنها تتغير بتغير المرحلة التاريخية؟.

تساعد هذه الأسئلة الباحث على أن يتمتع بـ «الخيال العلمي الاجتماعي» إذا استعملت مفهوم (رايت ميلز) ببعض التصرف. أقصد نوعا من المقاربة التي تستخدم الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية لكي تفسر ظهور الفرق، وتعطي الباحث القدرة على الانتقال من منظور إلى آخر، من المنظور السياسي إلى المنظور الثقافي، ومن هذين إلى المنظور الاجتماعي، ومن هذه كلها إلى المنظور الاقتصادي، والهدف هو فهم هذه الفرق ومغزاها في المجتمعات الإسلامية، وفي المرحلة التاريخية التي حددت وجودها، وطابعها النوعي.

إننا نعرف أن أحدا لن يطلب من الإسلام أن ينجز أكثر مما يستطيع إنجازه، فثمة بعد بنيوي بين الإسلام كممارسة والإسلام كدين، بين الإسلام كأفكار دينية وبين الواقع. بين الإسلام النظري والإسلام العملي. والحديث الذي يرويه البخاري عن الرسول «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا...» يعني بالتحديد هذا البعد البنيوي. لذلك لا مجال أمام الفرد إلا أن يسدد في الدين ويقارب.

يكفي المسلم لدينه أربعة أحاديث من آلاف الأحاديث. يقول المباركفوري في مقدمة شرحه جامع الترمذي «أما سنن أبي داود فقال هو: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت وجمعت في كتابي هذا أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث من الصحيح وما يشبهه ويقاربه. يكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث. أحدهما إنما الأعمال بالنيات. والثاني: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. والثالث: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه. والرابع: الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك متشابهات، الحديث».

ما أريد أن أصل إليه هو رغم الطاقة التحريرية الكبيرة للإسلام لا يوجد ضمان من تحوله إلى دين للقهر على أيد تؤول النصوص (تشاد الدين) لمصلحتها بدعوى أنهم العلماء الوارثون للنبوة.