تبقى المواقف والأحداث المؤثرة في مراحل الدراسة حية داخل النفوس، تقاوم غزو النسيان، وتُصبح مادة مسلية في لقاءات زملاء المدرسة.

ومنذ عقود مضت، لم يجد أحد المعلمين وسيلة هجومية للانتقام والسخرية من الطلاب بسبب ضعف شخصيته إلا بالإسقاط النفسي، حيث يختصر إلقاء الدرس، ويُخّرج ورقة يزعم أنه لخصها من بحوث نفسية واجتماعية، تشرح كيفية تحليل وقراءة شخصيات أشكال الوجوه المثلثة، المربعة، البيضاوية، المستديرة وأصحاب الجبهة البارزة والمسطحة.

ويختار بخبث أحد الطلاب ممن وجهه مثلث أو مستدير ليقرأ بصوت مرتفع عن عيوب كتبها من خياله المريض كالغباء والدلاخة وتبلد الأحاسيس، ولا ينته الطالب من القراءة إلا وقد انكسرت نفسه وتقطع صوته.

ولاحظت المعلم أنه يشعر بالأرتياح حين يضحك بعض الطلاب الآخرين مما سمعوه، وهم لا يعلمون مصيرهم في اليوم الثاني حين يختار طالبًا من أصحاب الوجوه المربعة أو الطويلة، ونفس الأسلوب ينعتهم بالغباء والكسل والحماقة، وعدم إلادراك إلى ما هناك من المثالب.

واستمر الوضع أسابيع، وحين طفح الكيل قلت له يا أستاذ ليس صحيحًا ما هو مكتوب في الأوراق التي تحضرها معك، فكل الناس خلقهم الله بوجوه مختلفة، وجميعهم أسوياء يحملون صفات الذكاء والخير والصلاح إلا ما ندر؟

ثم فاجأته بسؤال استفزازي أين تضع وجهك من تلك الأشكال التي صنفها الباحثون كما تقول؟.

فنظر إليّ نظرة غضب وحقد وقال: شو هالسؤال الغبي؟! إن المعلومات التي تكرأونها «تقرأونها» دراسات علمية لباحثين في علم النفس والاجتماع عن (الكوكازيين)، ويقصد القوقازيين الذين يعيشون في منطقة جغرافية عند حدود قارتي أسيا وأوروبا.

قلت له وما الفائدة منها؟ ولماذا تلزمنا قراءة تلك الأوراق بصوت مرتفع حتى أصبحنا كل يوم نتحسس وجو هنا أمام المرايا، ونتفحص وجوه الأهل والجيران والزملاء، ونظن فيهم الظنون؟

وعندما طلبت منه اسم الكتاب والمصدر الذي استقى منه المعلومات للبحث في المكتبة العامة انذاك، فما كان منه إلا أن أرعد وأزبد، وقال: عليك بدروسك بدلًا من استفساراتك السخيفة، وإلا والله أن تتعثر في الاختبارات الشهرية، وقد ترسب نهاية العام.

وتابع والشرر يتطاير من عينيه هل من الأدب والتربية والبر أن يسأل طالب أستاذه بهذه الجُرأة وتشكك في أمانته؟... شي غاد..

وبقيت طوال العام في دائرة غضبه، وأرهقني بعمل لوحات ورسومات عن موضوعات مادته التي يُدَرسها إلا أن الشيء الذي جعلني ابتعد عن مواجهته اختفاء تلك الأوراق تمامًا بعد نقاشي معه، ولم يعد يأت بها، وانتهت معاناة زملائي، وانتهى العام الدراسي، وكفانا الله شره.

ويصف الأستاذ الدكتور زكريا محمد هيبة في كتابه «عظماء في المدرسة» المعلم بأنه ورقة الرهان الرابحة في مضمار المؤسسات التعليمية.

وقال «المعلم بما يمتهنه من مهنة تدريس، يعتبر الوحيد من بين أصحاب المهن الأخرى المعني ببناء الإنسان، وتفجير طاقاته، وتطوير معارفه، وصقل مواهبه».

نعم تلك هي صفات المعلم صاحب الضمير الحي والرسالة العظيمة، وليس صاحبنا الذي استغل سلطته على طلاب قلوبهم بيضاء، لم يصلوا بعد إلى إدراك نواياه السيئة، لكسر نفوسهم والإيحاء إليهم بمعلومات مشوشة وكاذبة.