في وقت يظن فيه كثيرون أن متاعب المبتعثين للدراسة تكمن في صعوبة اللغة الجديدة ومتطلبات الدراسة ومعاييرها المرتفعة، ناهيك عن البعد عن الأهل والأصدقاء، يشير مبتعثون ممن سافرت معهم أسرهم إلى صعوبة أشد، تتمثل في تلقى أبنائهم، على الأخص الصغار منهم، في مدارس الاغتراب ثقافة مختلفة تماما عن ثقافتنا المحلية، بما فيها تلك ذات المساس بتعاليم الدين الحنيف.

ويشتكي كثير من الطلاب السعوديين المبتعثين إلى الخارج من صعوبة ومعاناة التوفيق مع ما يتلقاه صغارهم خلال مخالطتهم زملائهم في مدارس الاغتراب بمختلف المراحل، وعلى الأخص المرحلة المبكرة التي يكون التأثير فيها أشد، وميل الطالب لتقليد ومجاراة زملائه أوضح.

ويشير عدد من المبتعثين إلى أن صغارهم يفاجئونهم كل يوم بعادة جديدة اكتسبوها وتعلموها، كما أن بعضهم يطالب والديه مثلا بالاحتفال بمناسبات لا تتلاءم مع بيئتنا المحلية، كما أنهم يلاحظون أحيانا على أبنائهم سلوكيات وتصرفات جديدة في كل مرة يعودون فيها من مدارسهم أو من خارج المنزل، وما اضطر بعضهم للعودة بأطفاله وقبول حتى البقاء بعيدا عنهم خشية من اكتسابهم ما لا يتناسب مع عاداتنا وتقاليدنا الدينية والمجتمعية.

صعوبة التربية

يحدد مرشح الدكتوراه في التربية الخاصة أحمد صالح آل ناجي الصعوبات والتحديات التي تواجه رب الأسرة المبتعث حين يعيش مع أولاده في بلاد الابتعاث، ويقول «أكبر تلك المصاعب والتحديات هي تربية أطفالنا بالطريقة الإسلامية وعلى الثقافة المجتمعية المقبولة، على الأخص لمن هم في سن المدرسة، فما يشاهدونه في كتب الدراسة وكتب المطالعة في المدارس، وما يرونه كذلك من مظاهر غير لائقة ومعتقدات خاطئة كلها أشياء تؤثر في تكوينهم ونجد صعوبة في التعامل معها، وكلما كبر الطفل زادت المصاعب، فالمبتعث لا يعلم هل يركز على دراسته أم على أمور الحياة أم على تربية أطفاله ومحاولة تصويب أي سلوكيات أو معتقدات خاطئة يتلقونها وتعديلها بزرع أفكار صحيحة ومناسبة في أذهانهم».

ويضيف «القصص كثيرة ومختلفة، والموضوع يطول، ويجد الأبناء أنفسهم مضطرين لمجاراة الآخرين في المدارس حتى لا يشعروا بأنهم منبوذون، وحتى لا يكونوا عرضة للتنمر من وجهات نظرهم».

احتفالات الهالوين

يواصل آل ناجي «يواجه أبناؤنا طقوسا احتفالية بمناسبات دينية وغير دينية لدى الغرب، والتحضير لتلك الاحتفالات قد يثير إعجابهم بعض الأحيان، مثل بعض مظاهر احتفالات الهالوين والكريسماس وغيرها، فتبدأ العائلات والأسواق بالاستعداد لهذه المناسبات قبلها بمدة طويلة من تجهيزات للاحتفال سواء داخل المدارس أو خارجها وبشكل مستمر، وهذا ما يثير إعجاب الصغار، ويصعّب الأمور على رب الأسرة».

ويضيف «مصدر إعجاب الصغار بهذه المناسبات والتحضيرات لها يأتي من باب اهتمام الآخرين الكبير بها، والاستعدادات الضخمة لها، والحديث الدائم عنها في المدارس والأسواق والمنازل ولفترات طويلة، وهذا التكرار يكرس لدى صغارنا مبرر الاحتفال بها، على عكس الحال مع مناسباتنا وأعيادنا التي تقتصر في الغالب على أيام العيد»بالسلام على الأقارب«وبعض المظاهر الاحتفالية المحدودة، ومن هنا يأتي التحدي لدى المبتعث في كيفية التعامل مع صغاره في مثل هذه الحالات، عبر حرصه على محاولة تمييز أعيادنا ومناسباتنا الوطنية، ولهذا تحاول بعض العائلات خلق أجواء مناسباتنا، وإن كان مجاراتها لما يحدث في مناسبات بلاد الابتعاث من حيث البهرجة والاهتمام غير ممكن، أو فوق طاقتها».

تحديات إضافية

يركز آل ناجي على تحديات أخرى تواجه المبتعث مع صغاره في بلاد الابتعاث، ويقول «ثمة تحديات أخرى علينا التعامل معها، تتعلق مثلا بتعاليم ديننا من حيث المحافظة على الصلاة في أوقاتها، وعلى صيام رمضان، وما يحرم من مأكولات وغيرها، وتعارض هذا في بعض الأحيان مع ما يراه صغارنا أو يتعلمونه في المدارس وما يشاهدونه، فثمة فوارق في العيب والحياء، وهناك أحيانا سعي من صغارنا لمواكبة أقرانهم في المدرسة في الفعاليات وغيرها، وبعضها يتطلب نشاطات خارج المدرسة، وهنا تكمن الصعوبة في تعامل الأهل مع خوفهم على أبنائهم، والخشية عليهم من بعض الأفكار والمعتقدات».

ويضرب آل ناجي مثلا بصديق «أحد الأصدقاء لديه ابن كبير في السن قليلا، طلب منه ابنه أن يرافق رفاقه إلى السينما، فوقع بين ناري منعه وزعزعة ثقته بنفسه أو تركه ليذهب مع رفاق لا يعرف ماذا سيفعلون ويشاهدون، فكان أن قال له: من فترة وأنا أفكر أن أروح للمكان ذا، يلا بروح معكم وبجلس بعيد، بمعنى عامي خذو راحتكم».

العودة بالأطفال

يقول آل ناجي «يحاول بعض الآباء التوفيق بين الالتزامات، فبعضهم يدرس ويحاول تربيه أطفاله تربية سليمة لدرجة أنه يغفو في السينما أو بعض الأماكن التي يصطحبهم إليها من شدة التعب، ويفكر آخرون بإعادة أبنائهم في مرحلة معينة من الدراسة خارجا لتجنب ما يواجهونه من أفكار ومعتقدات وغيرها».

مشاكل قانونية

يشير آل ناجي إلى مشاكل أخرى، تواجه المبتعث مثل صعوبات اللغة ومحاولة الحديث مع الآخرين في البدايات، وصعوبات الاعتناء بالزوجة بعد الولادة، لكنه يشير إلى أن ما يخفف العبء على المبتعثين هو عناية عائلاتهم ببعضها بعضا، حيث تحرص تلك العائلات على تبادل الزيارات، وإحضار وجبات سعودية معها خلالها، وتغيير الأجواء للزوجة ومساعدة الزوج.

كما يشير إلى مشكلة أخرى تواجه المبتعثين مثل قلة المعرفة بالأنظمة والقوانين وما ينجم عنها من مشكلات قانونية.

معاناة المراهقين

من جانبه، يقول مرشح الدكتوراه في التربية الخاصة طراد السلولي: ثمة معاناة شديدة في كل ما يتعلق بحياة الابتعاث، لكنها تزيد أكثر مع المبتعثين الذين يصطحبون زوجاتهم وأبناءهم معهم خلال فترة الابتعاث والدراسة، خصوصا مع تباين الثقافات واختلاف العادات المجتمعية والسلوكيات الدينية التي تواجه أبناءهم، وقال «كثيرا ما يوجه أبناؤنا معاناة مع ما يقدم لهم من وجبات غذائية في المدرسة وهم لا يتقبلونها لأنها محرمة شرعا، ويرفضونها ويضطرون لتناول أشياء محدودة جدا، هذا بالنسبة للكبار، أما الصغار فللأسف ما يقدم لهم من وجبات لا يُقبل بها إطلاقا، وقد اضطررت لأن أذهب إلى إدارة المدرسة لأوضح لهم هذا الأمر، وأطلب منهم السماح لأبنائي بإحضار الطعام معهم من المنزل حيث ما يقدم لهم بالروضة والمدرسة يحرمه ديننا، إضافة إلى عدد من العادات والسلوكيات وبعض الممارسات التي يشاهدها الصغار من زملائهم فيحاولون تقليدهم بل يطلب منهم ممارستها ونتفاجأ بها كآباء، وتوقعنا في حرج كيفية التعامل معها والمحافظة على أبنائنا من الانجراف نحوها، وهذا يزيد من الضغوط علينا، فمثلا يحدثني زميل أن أحد أبناء الجيران طرق بابه يوما حيث طلب منه أن يسمح له باصطحاب ابنته لتخرج معه، وهم في سن المراهقة، فاعتذر منه وأبلغه أنها نائمة ولا تستطيع الخروج».

غياب الرغبة

يوضح السلولي «يعاني عدد من المبتعثين من مواجهة أطفالهم صعوبات في اللغة والتخاطب مع زملائهم عند قدومهم لأول مرة إلى بلاد الاتبعاث، حيث تشكل اللغة عائقا أمامهم في التفاهم فيما بينهم وبين زملائهم، فيعود الطفل إلى المنزل وليس لديه أي رغبة في العودة من جديد إلى المدرسة».

لقاءات ومساعدات

يبين السلولي «ما يخفف الأعباء لدى المغتربين هي لقاءاتهم مع بعضهم بعضا، فغالبا ما نجتمع نحن المبتعثين كل يوم جمعة، ويكون هناك عشاء للجميع، ويحضر معنا أحيانا أصدقاء من خارج المجموعة، وهناك تعاون، والكل يساعد على الأخص عند الحاجة إلى مستشفى أو نقل عفش أو السفر لشراء سيارة، فمثلا في الشهر الماضي اضطررت لطلب المساعدة من الزملاء في نقل العفش، فجاء 11 شخصا للمساعدة».

اختلافات شديدة

يرى محمد عبدالله اليحيى، وهو طالب مبتعث لدراسة الدكتوراه في جامعة دوكين، أن «الحياة في بلد الابتعاث مختلفة تماما عن حياتنا في المملكة، وهي تحفل بسلسلة من التحديات والصعوبات التي على المبتعث أن يدركها، خصوصاً إذا كان لديك أطفال، فالمجتمع الغربي لديه بعض العادات والتقاليد التي لا تتفق مع عاداتنا، وهذه أحد مواطن الصعوبة لمن لديه أطفال، فنحاول أن نرسخ قيمنا الإسلامية ونعوضهم شيئا عما قد يفقدوه، فنحاول أن نصحح هذه المفاهيم من ناحية بر الوالدين والاحتشام في الملبس والمحافظة على الصلاة والأكل الحلال وغيرها».

وتابع «من ناحية أخرى، هناك تحديات أخرى للمبتعث منها البعد عن الأهل والوطن، فبعض المناسبات الحزينة أو السعيدة تمنينا أن نشارك أهلنا فيها لكن ارتباطنا بالدراسة في الخارج يعيقنا عن ذلك. وربما هذا ما يجعل المبتعثين متعاونين وتجمع بينهم لقاءات دورية تخفف من وطأة الاغتراب، وغالباً ما تحضر في لقاءاتهم الكبسة والجريش والأكلات الشعبية المختلفة كما تحضر القهوة السعودية، وأحيانا نقضي بعض الوقت في بعض الألعاب كالبلوت والبلايستيشن في محاولة استعادة الأجواء التي نفتقد إليها منذ غادرنا بلادنا».

ويعتقد أيمن عبدالله هزاع العمري، عضو هيئة التدريس في جامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز مرشح دكتوراه في جامعة دوكين أنه مع وجود الاختلاف في الثقافات والعادات والتقاليد المجتمعية والدينية والمعاناة التي تواجه المبتعث وعلى الأخص مع صغاره، إلا أن كل شخص لديه الحرية الكاملة لممارسة عاداته وتقاليده بما لا يؤثر على الآخرين، ولذا لا يختلف الوضع كثيرا عن تفاصيل حياة المواطن السعودي في بلده.

وقال «مع كل هذا ثمة صعوبات لا تخلو منها حياة المبتعث، وشخصيا فإن من أصعب المواقف التي واجهتها كان خبر وفاة والدي، خصوصا أنني لم أستطع العودة إلى أرض الوطن في تلك الفترة نتيجة لجائحة كوفيد 19، وتوقف الرحلات الجوية».