لا أبالغ إن قلت إن آراء الناس في مجتمعنا تكاد تكون محتكرة، خاضعة للتعبير الموحد، لدرجة أن البعض استطاع أن يسبغ عليها مفهوم "الرأي العام"، وهذا الرأي ببساطة ما هو إلا انعكاس وجهات نظر فئة معينة من فئات المجتمع يمكن تسميتها بالرأي الخاص.

في هذا الصدد يقول الفيلسوف الفرنسي "دي توكفيل": "الغالبية تمارس وضع عديد من الآراء الجاهزة، ليعتنقها الأفراد الذين أزيح عن كاهلهم عبء صياغة مثل هذه الآراء لأنفسهم. فهناك، يعتنق كل فرد عدداً كبيراً من النظريات بشأن الفلسفة والأخلاق والسياسة، يعتنقها دون أن يفحصها، اعتماداً على واضعيها الذين يتمتعون بالثقة الشعبية".

وقول (توكفيل) قد ينطبق في وجه من الوجوه على بعض الفئات في المجتمع، لنأخذ على سبيل المثال قضية السينما في مجتمعنا، فهناك من يقول: "إن المجتمع السعودي بغالبيته يرفض فكرة السماح بدور السينما في البلاد"، وهناك من يدافع عن هذه الفكرة باستماتة، وهنا لا أتحدث عن إيجابيات وسلبيات دور السينما، ولكن أتساءل: كيف عرف هؤلاء أن غالبية المجتمع يرفض ذلك؟ هل هناك استطلاعات للرأي العام في هذا الشأن؟ بالطبع الإجابة عن هذا التساؤل تكون بالنفي، وذلك لسبب بسيط هو أنه لا يوجد لدينا مراكز أو معاهد مستقلة لقياس الرأي العام!.

ونظراً لوجود هذه المشكلة، استطاع البعض تعميم الآراء على المجتمع واحتكارها في نفس الوقت، مستغلين في ذلك أيضاً غياب مفهوم الرأي العام وأساليب قياسه، وليس هذا فحسب بل أثرت أيضاً بشكل سلبي على العديد من الدراسات والبحوث الاجتماعية والاقتصادية عموماً، وعلى العديد من القرارات الإدارية خصوصاً.

في هذا الموضوع لا أستثني أحداً من تيارات المجتمع عموماً، سواء كانت ليبرالية أو محافظة، فبعض الليبراليين أيضاً يحكمون على الرأي العام من خلال الحكم على التراث الثقافي للمجتمع، صحيح أن التراث يعد عنصراً مهماً من عناصر الرأي العام، حتى إن بعض العلماء أطلق عليه مسمى "جنين الرأي العام" الذي يمكن التكهن والتنبؤ به، ومع ذلك يجب الاعتراف بأن التنبؤ بالسلوك وردات الفعل كثيراً ما تأتي خلاف الواقع، وخاصةً في ظل التغيرات والتطورات السريعة التي يمر بها المجتمع، وبالتالي تتغير الثقافة ويتغير الناس.

في واقع الأمر، نحن لا نعلم ما هي حقيقة الرأي العام في كثير من قضايانا الجدلية فعلى سبيل المثال، لا نعلم هل غالبية المجتمع يرفض أو يقبل بدور السينما؟ ولا نعلم هل يؤيد أو يرفض قيادة المرأة للسيارة؟ وهل يرفض أو يقبل بقرار تأنيث المحلات النسائية؟ ونقيس على ذلك أيضاً باقي قضايانا والقرارات الحكومية الأخرى.

ومن هذا المنطلق، نحن بحاجة ماسة إلى وجود مراكز ومعاهد تقوم بقياس الرأي العام وفق أسس ومناهج علمية واضحة، وألا يترك الأمر هكذا عشوائياً، فالبعض منا يتصور ما يعرض على القنوات الفضائية والصحف من استفتاءات للقرّاء والمشاهدين بأنه رأي عام، والبعض الآخر يرى أن ما يقوله العلماء والمشايخ والمفكرون هو رأي عام، كما أن بعض المسؤولين في بعض الجهات الحكومية يعتقد أن الرأي العام هو ما يكتب عن دائرته أو جهته في الإعلام، بالإضافة إلى الشكاوى والمقترحات التي تنهال كل يوم على مكاتبهم، وأخيراً يصدرون قراراتهم اعتقاداً منهم أنهم يعرفون ما يريده المواطن أو المستفيد من الخدمة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن أحد الأسباب التي تتعلق بعدم الاعتماد على قياسات الرأي العام هو أن البعض مازال يعتقد أن غالبية الناس ما تزال تفتقد إلى البصيرة والوعي والرشد الفكري ولا يميزون بين الحق والباطل، ومن ثم فإن النخبة من العلماء والمفكرين هم أدرى بمصالحهم! لذا فإن من يعتمد على آراء الناس سيحاول دائما أن يفعل ما يرضيهم سواء كانوا على حق أم باطل!

وهذا الرأي في الحقيقة لا يميز بين الحلول والممارسات التي تتفق مع مستجدات الواقع والتي بطبيعة الحال لا تنطلق من مسألة حق وباطل، بل من موقع المصلحة العامة للناس، ناهيك عن التطور التعليمي والمعرفي لهم.

وعلى أية حال، فإن قياس الرأي العام ليس هدفاً في حد ذاته، بل هو وسيلة لجمع المعلومات والبيانات عن مجتمع يزداد تعقيداً كل يوم، وهو لا يقل أهمية عن التعداد السكاني مثلاً، لذا من الضروري أن تكون هناك هيئات متخصصة في وضع مقاييس ومؤشرات للرأي العام لأي برنامج أو قضية أو مشكلة في المجتمع، وهذه الهيئات هي التي تحدد أسلوب ومنهج البحث وتتولى المسح واختيار العينات الإحصائية، وتحلل النتائج وتنشرها.

لذا يمكن إنشاء معهد أو مركز يكون تابعاً لمصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات في المملكة أو يكون مستقلاً بذاته، يقوم بعمليات القياس المطلوبة، ولا يقتصر ذلك فقط على المعهد أو المركز، بل أيضاً جميع الجهات والوزارات الحكومية في برامجها وأنشطتها، وذلك من خلال إدارات العلاقات العامة بها وتفعيل دورها في هذا المجال من خلال توفير الإمكانيات البشرية والمادية لها.

أدرك جيداً أنه سوف تكون هناك مشكلات وصعوبات قد تواجه النشاط الحكومي في عملية استطلاع الرأي العام، منها ما يتعلق بالتخطيط وأخذ العينات والمقابلات الشخصية وتجهيز البيانات واستقطاب الكفاءات المؤهلة وتدريبها، ناهيك عن بعض الآراء التي تشكك في مثل هذه الاستفتاءات وفي نتائجها، أو التلاعب بها أو التأثير الدعائي والإعلامي على الناس، وأقول إن تجربة التعداد السكاني مرت بهذه الصعوبات واستطاعت التغلب على معظمها وبالتالي ليس هناك ما يمنع التطبيق في ظل توفر التقنيات والأساليب الحديثة والتجارب والممارسات الدولية في هذا الشأن.