عندما سُئلت في برنامج جماعات مع هدى الصالح في الجزء الأول من الحديث عن شخصية (أبي محمد المقدسي عصام البرقاوي) التي كانت ولا تزال مؤثرة جدا في المسار الفكري لواقعنا المعاصر عن (تحصين الشباب من خطورة الفكر المتطرف والتصدي لأفكار ملة إبراهيم)، و(ملة إبراهيم) كتيب لا يتجاوز المائة صفحة، بدايات تأليفه في عام 1405، وكان يوزع يدويًا قبل طباعته بعد ذلك في الكويت فباكستان، ثم انتشر بشكل لا يصدق (وهنا أنا أتحدث عن الثمانينيات).

بدايات انتشار الكتيب كانت من خلال نسخة بخط اليد بقلم المقدسي، حيث إنه - كما يقول مؤلفه - أهداه إلى بعض الجزائريين (وهو أحمد الجزائري رأس التكفير في بيشاور منذ بدايات الجهاد الأفغاني). وأصل الكتيب أنه فصل من كتاب كان يُعده المقدسي باسم (أساليب الطغاة في الكيد للدعوة والدعاة)، وهذه عادة المقدسي في تسمية كتبه يُتبعها بالسجع تأسيًا وتأثرًا بأئمة الدعوة النجدية، أو على الأقل كما يظهر من خلال معرفتي به وسبري لأغوار شخصيته الكاريزمية، حيث إنه كشخصية، له كاريزما مؤثرة بحضوره الممتلئ حماسةً عند الجلوس والتحدث معه. وهذا الكتيب (ملة إبراهيم) يعتبره النافذون لعمق الفكر المتطرف وخبراء أفكار الجهاد أنه أصل من أصول التكفير والمرجع التأسيسي لكل جماعات التطرف المعاصرة، تلك التي رأيناها تتشكل عند بدايات الجهاد في أفغانستان بعد حادثة دخول جيهمان والإخوان (أهل الحديث) إلى الحرم بداية 1400، وتأصلت تلك الجماعات في مصر، ثم زُرعت بعد ذلك في السعودية، وبعد ذلك بعدة سنوات جاء من زرع المجاهدين في أفغانستان وهي أمريكا وهيأت لتلك الجماعات أرضًا خصبة في عراق صدام حسين، فتم احتضانه من قبل الأحزاب في العراق، فنشأت علاقة ود بين تلك الجماعات في العراق والتيارات في سوريا بعد عام 2011 عند بدايات الفوضى العبثية العارمة التي اجتاحت المنطقة العربية.

وفي اليمن جاء حضور تلك الجماعات وتغذيتها وترسيخ أقدامها عن طريق السياسة، حتى وصلت الجماعات المنحرفة فكريا إلى أوروبا وأمريكا فيما يُعرف بالذئاب المنفردة. فكل هذه الجماعات تنهل من معين (ملة إبراهيم).

وعودًا على بدء، كان جوابي عن السؤال المحوري والمؤرق بالنفي، أي أن شبابنا ليس محصنًا من التأثر بـ(ملة إبراهيم)، وذلك الجواب تأسس على أسباب لا تزال قائمة في الواقع، فوجود أصل أفكار ملة إبراهيم لا يزال قائمًا بتوافر المرجعيات الأساسية لتلك الأفكار في المسائل التي لم تُحل بعد، وفي المراجع التي لم تُنقح من خلال النقد العلمي والمعرفي الرصين لتبيين ما فيها من إشكاليات حقيقية. وعندما نتحدث عن (ملة إبراهيم) هو مصطلح يتضمن معاني كثيرة، وتتخلله تأصيلات عقدية إيمانية من خلال تتبعها أصول الاستدلال لدى الفقهاء والأصوليين وعلماء العقائد والكلام، فقد كان المصطلح يعني أن ما قام به النبي إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - مع قومه في البراءة من الأصنام وما يُعبد من دون الله عز وجل، تحقيق لأصل التوحيد الذي من أجله خلق الله العباد وكون كل شيء، قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وأن تلك الأصنام ما هي إلا مخلوقات لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، ولقد جاءت النصوص المؤيدة باتباع ملة إبراهيم (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)، أي الزموا ملة إبراهيم كما في قوله تعالى (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا).

وهذا المصطلح هو الركن الأساس الذي بنى عليه صاحب كتاب ملة إبراهيم أفكاره المتطرفة والشاذة، حيث لفق كثيرًا من الأفكار التي أفتى بها بعض علماء الدعوة النجدية في كتاب (مجموعة فتاوى علماء الدعوة النجدية) وهو مؤلف يتضمن أكثر من عشرة مجلدات، جمعه العلامة عبدالرحمن بن قاسم -رحمة الله عليه- وذلك التلفيق والاستدلالات المجتزءة من مجموعة فتاوى أئمة الدعوة النجدية لا تزال قائمة، ولما يُتصدى لها بشكل مؤسساتي عميق، لأن أغلب الجماعات المتطرفة تأسست على أفكار كتاب (ملة إبراهيم). وعلاج إشكاليات التكفير وأفكار الجهاد وآيات البراءة من المشركين لا يمكن إلا بالاعتراف بأن هذا الكتاب كان مؤثرًا تأثيرًا بالغًا في تعزيز وتدعيم الانحراف الفكري لدى الشبيبة، وأن كل ما تأسس عليه الكتاب، ساهم وكان له الأثر الكبير في انتشار وتدعيم أفكار المقدسي، وما لم يواجه الكتاب من خلال المؤسسات الفكرية الرصينة، فلن يتم التصدي، وتحصين النشء والشبيبة التي لا تزال غضة طرية تتشكل بسرعة لا يمكن أن يتخيلها المرء فيما مضى.