يحتار كثير من الناس في مفهوم «الوسطية» التي ينبغي أن يكونوا عليها؛ ولعل الدعاء الوارد في سورة الفاتحة هو الأكثر مناسبة، وأعني قوله تعالى على لسان من يرجوه: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، أي الطريق الموصل للحق، الذي لا التواء فيه ولا انحراف، طريق غير المغضوب عليهم، وغير الضالين المضلين، وطريق الذين تعني الوسطية عندهم «الاعتدال»، في كل صغيرة وكبيرة، في الحياة، وفي كل ما يصل بالناس إلى الخير والتيسير والتوازن، وعدم الطغيان وعدم الجفاء وعدم الإفراط او التفريط، وطريق الذين فهموا قول رسول الله إليهم، صلوات الله وسلامه عليه: «لن يُنجِيَ أحدًا منكم عملُه، قالوا ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟! قال ولا أنا؛ إلَّا أن يتغمَّدَني اللهُ منه برحمةٍ؛ فسدِّدوا وقارِبوا، واغدُوا وروحُوا، وشيءٌ من الدُّلْجَةِ، والقصدَ القصدَ تبلُغوا».

أتوقف هنا عند حديثين براويتين مختلفتين، ودرجتهما يحتج بهما، قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الأديار والصوامع، فاعبدوا الله، ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم بكم»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تتشددوا فيشدد الله عليكم، فإن من كان قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات؛ رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم»، ومنهما يمكن فهم التحذير من عدم التوسط في الأخلاق والاعتقاد والسلوك والتشريع وحتى أداء العبادات، ومن لم يكن كذلك فهو من المنحرفين عن الحق، ومن الذين غلبوا عواطفهم على عقولهم، ومن المفرطين في الاستفادة من كلام الراسخين من العلماء، والمتبحرين في «الفقه» بمعناه الشامل والواسع..

من قصص الحديث الجميلة، ما رواه الإمام البخاري في الصحيح وغيره: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته، صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟! قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، أجابهم نبيهم، صلى الله عليه وسلم، عن ظنهم، رضوان الله عليهم، أن أفضلية العبادة في المشقة والحرمان، وبين لهم أن مرجعيتهم إليه، ومرجع الوسطية إلى الشرع، وأن الرفق في محله محمود، والتشدد إذا صادف محله محمود وممدوح، وأن العبادة لا تتحقق إلا عندما يحقق الإنسان التوازن لنفسه، وإذا انتفى «التوازن» انتفت الوسطية، وغاب عن الأذهان فهم قول الحق سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}؛ إنه النظام الرباني الذي نظم به «الكون»، وعلى «الكائنات» حذو الصنيع ذاته.