رفضت صديقتي لقاءً بيننا، وافق -صدفةً- 14 شباط، وكنتُ نسيت أنه يوافق عيد الحب، ولم تفصح -وقتئذ- عن أسبابِ تخلفها، ولما التقينا بعد ذلك، انطلقت في ذكر القصدية اللاواعية في اختيار 14 شباط، ليكونَ مَوعِدًا نجمع بهِ شَتاتَ تاريخ الحُبِّ على طاولةٍ كسرها الزمنُ. ولما حاولتُ أن أقاطعها، لم تسمع إلا صوتَ غضبها، فواصلت الحديثَ عن حلٍ سيريح الحبَّ من عذاباته.

اختلطت أفكارُها من شدةِ تداعيها وذكائها، قالت: هل نحن نتعذّب بالحب، أم الحب يتعذّب بنا؟

قلتُ: مَن (نحن)؟ ثم لم يكن 14 شباط، مقصودًا... قاطعتني: لا تُجِب بقصديّات ذاتيّة، بل بمعانٍ كليّة.

قلتُ متضايقًا: ماذا تُريدين الآن؟ قالت: وجدتُ حلًّا لمشكلة الشرق والغرب وصراعهم الدائم عن المعاني التاريخية، ومركزية الجغرافيا ومنطلقات فلسفتها.

‏الحبُ في يوم 14، لمن ينتمي؟! قطعًا ليس لنا، بل إنه يجعل العربَ يخجلون من الأصبهاني في الزَهرة، وابن حزم في طوقِ الحمامة، وحتى ممن يُصنّف سلفيا متشددا كابن القيم، إذ ما الفرق بين حُبِّ العُشّاق العرب لابن حزم في طوقه، وكرههم لابن القيم في كتابه روضة المحبين ونزهة المشتاقين؟!

أنتَ تعرفُ أنَّ ابنَ القيم له مساران؛ مسارٌ يبث فيه آراءَه في الأصول والعقائد والحديث. ومسارٌ يبثّ فيه آراءه في علم السلوك، وطرائقه، وأسرار النفس، وعلاقتها بالجسد، ومن ثمَّ مقامات الإيمان. فَمَن ينتمي في طبيعةِ معيشته ونظرته للحياة للمسار الأول فإنه لا يركز بوعي على السلوك، وطرائقه الصوفية الموصلة لما وراء المادة، ولهذا فإنه -في لا وعيه- يَغفلُ عن كتابِ ابن القيم في العشق، وإن اطّلع عليه فإنه لا يفهمه كفلسفة، بل معلومات عامة مفصولة عن أسرار الحياة، ومن ثمّ تكون تصرفاته مع الناس، بناء على فهمه لابن القيم، وأغلب استشهاداتهم له تُعطِي انطباعًا بأننا أمام شيخٍ كاره للآخر.

وقد يكون كذلك، لكن سيُسألون: ماذا عن ابن القيم في روضة المحبين؟ إنه يمثل أناسا ينتمون للمسار للثاني، وهؤلاء سيقرؤون له كفلسفة روحية صوفية، بعيدًا عن الصراعِ الملغي للآخر.

وابنُ حزمٍ لا يخلو من مسارين كذلك، إذ قد كانَ فقيهًا متشددًا.

قلتُ: وهل هؤلاءِ إغريقيون في عشقهم؟، فيكون حَلّكِ -الذي لم تقوليهِ بعد- لا قيمة له؟ قالت: حين تسمع قول ابن حزم: «الحب ليس بمنكر في الديانة، إذ القلوب بيد الله» ستعرف أن هذه الجملة لم تكن إلا تعبيرا عن ثقافة في الحب متجذرة، التحمت مع تفكير الإغريق فأخرجت مكنونها وأفق نظرها؛ إذ لم يكن لإغريقيٍّ أن يفكر بجملةٍ كهذه. بل إنَّ هذا الالتحام هو ما يجعلني أطرح الحل، قلتُ: الحل، الذي طال انتظاره...!

قالت: الحلّ جبران خليل جبران. وعيد الحب هو 7 شباط، وليس 14.

فجبران يُمثِّل الشرقَ والغربَ، وهو الذي يُوحّدهم؛ لأنه منبوذ هنا وهناك، أعني كلا الثقافتين لا تعترفان به كواحدٍ منها، ألا ترى المفارقة التي تعيشها الثقافات، المنبوذ هو حلقة الوصل في اللاوعي؟

‏أما نبذه في الشرق فقد قالَ جبرانُ بأنَّ أشباحَ العداوة ظهرت، فالناس في سوريا يدعونه مهرطقًا، والنخبة المثقفة في مصر يسبونه قائلين: «إنه عدو لقوانين العدالة، وللروابط الأسرية، وللتقاليد القديمة».

وقد يظهر لكَ أنَّ هذا التعبير يجعل من جبران يُمثِّل الغرب، ولكن حتى الغرب نبذوه، لأنه يكره هذه القوانين، لأنها من صنع الإنسان. وهذه الكراهية هي ثمرة حبه للمُقَدّس، وثمرة للعطف الروحي الذي يجب أن يكون المنبع لكُلِّ قانون فوق الأرض، لأنَّ العطفَ هو ظل الله في الإنسان. وأما وصله الشرقي فقد جاءَ -مثلًا- في ترسيخِ الرومانسية بين شعراءِ المهجر، ومن ثمّ امتدَّ هذا التأثير إلى الشرقِ كله، حتى إنَّ محمد مندور صَنَّف ذلك التأثير -الذي صنعَ شعرًا ونثرًا متجددا- بالشعرِ المهموس، وكأنّه يُشير إلى الحبِّ في تجلّياتِ همسِه، الممتدةِ لأن يكونَ الحبُّ وسيلتنا في الحياةِ مع كُلِّ شيءٍ، لهذا طَربَ الكثيرون لقصائدَ استخدمت عناصرَ اللغة، لتضع قارئها أمامَ الحياة مباشرة، وتقول له: (سر، بهمسِ محبٍّ صادقٍ، لتعرفَ -بنفسك- المعنى الذي تشترك به مع أخيك الإنسان).

وأما وصله للغرب، فإنَّ الجنونَ كانَ خيطًا من الخيوط التي ربطَ جبرانُ الغربَ بالشرق، تأمّل مقارنةَ جبران لتلقي ميّ زيادة -لكتاب المجنون- مع تلقي الغرب يقول:

«والمجنون.. أنتِ تقولين إن فيه ما يدل على القسوةِ بل وعلى الكهوف المظلمة.

وأنا إلى الآن لم أسمع مثل هذا الانتقاد مع أنني قرأتُ الكثيرَ مما نشرته جرائدُ ومجلات أمريكا وإنجلترا، والغريب أنَّ أكثر الأدباء الغربيين قد استحسنوا القطعتين: عقلي والسائرون في نومهم» بل إنَّ تمثل جبران للحب، بعلاقته بمي زيادة، كان ملتقى رمزيا لمعنى الحب ذاته في صراعات الحياة، فرمزية علاقته بميّ فريدةٌ، وفي الآن نفسه يتراسلان للحديث عن مشكلات الزواج، فكانت ميّ تشير إلى الطبيعة بوصفها أمًّا، تقولُ:

أنت تُسَمّي هذه سلاسل ثقيلة حبكتها الأجيال، وأنا أقول نعم، ولكن حبكتها الطبيعة التي جعلت المرأةَ ما هي». وقد تمثل جبران هنا رؤية ثقافية تمزج الشرق بالغرب، حين رأى أنَّ الحقيقة مخبوءة في عباءةِ الأجيال.

قلتُ: حسنا؛ ولماذا 7 شباط تحديدا؟

قالت: لأنه في هذا اليوم قال جبران وهو يتمركز في الغرب: «هل تعلمين بأنني كنتُ أقول لذاتي هناك في مشارق الأرض صبيةٌ ليست كالصبايا قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السرَّ العلوي الذي تخفره جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلادا لها وقومي قوما لها، هل تعلمين بأنني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كلما وردت عليّ رسالة منكِ؟»

لهذا يا صديقي: لنا أن نتصوّر لقاء المحبين في العالم كله في 7 شباط، متمثّلين مقولة جبران: «ماذا ينفع الإنسان إذا ربح استحسانَ العالم وخسرَ استحسان مَيّ».