ذهبت وحدي إلى التظاهرة مستجيبة لبيان تحريضي يدعو الجميع إلى التعبير عن استنكارهم لهذا العمل الوحشي، هكذا رحت أبحث عن أدوارى فيه وسط هذه الحشود. وفجأة وقع بصري على مجموعة من النساء اللائي يرتدين فساتين طويلة بما يفصح عن المناسبة والأمكنة التي أتين منها: إنها من غير شك أحياء شعبية.
اتجهت ببطء نحو هؤلاء النسوة، وإذا بي أكتشف بينهن سيدة ثلاثينية ترتدي البلوجينز وشعرها مقصوص، قصة صبيانية. ومع اقترابي لاحظت أن لابسة البلوجينز هي التي تقود الأخريات بهتافاتها، وارتحت لوجود مجموعة أوحي إلي أنني أنسجم معها. عند انخراطي في الجمع هذا صار الشعار الذي تردده النساء، صدى لهتاف لابسة البلوجينز واحداً وحيداً «الله أكبر يا شهيد.. الله أكبر».
ظللت أسير صامتة وسط حركة النساء وهتافاتهن إلى أن التفتت نحوي امرأة غطت رأسها بمنديل أبيض: اهتفي معنا. رددي شعارنا ابتسمت بخجل، صامتة إلا أن قائدة المجموعة، لابسة البلوجينز، ما لبثت أن التفتت إلي ووجهت أمرها بعدوانية واضحة: رددي الهتافات أو ارحلي من هنا. العدوانية المذكورة أمدت النساء التابعات بزخم وشجاعة، راحت الأخيرات يتوجهن إلي مهددات. خفت، فالنساء اللواتي خلتهن حليفاتي خنني. خوفي من العنف الجسدي أرغمني على الانسلال هرباً وأنا أكبت دموعاً تجمعت في عيني.
هكذا تعرفت إلى التعنت وعدم التسامح، ولم أعرفهما قبلاً عبر سلطة ذكورية ممثلة بأب قاس أو مدير مدرسة متسلط أو رئيس مصلحة طموح، كما تقول السيناريوهات التبسيطية عن نزاع الجنسين.
وفي وسعي الآن، وقد نأت المراهقة وما يتصل بها، أن أعاود النظر إلى الصدمة التي أحسستها إبان التظاهرة، خصوصاً أنها ظلت تعود إلى ذاكرتي. والحق أن اختلاف الوجوه والأزياء، وهذه هي بالضبط حدود الاختلاف، ليس قليل الدلالة في تشكل حالة من التعصب الجماهيري. فالمجموعة كانت تعتقد أنها تملك ما يمنحها شعوراً بالقوة لثقتها بصحة إيمانها ووجود سلاح الحقيقة كاملاً في يدها. أما السيدة التي انتمت ملابسها إلى لون من ألوان الموضة الحديثة، فلا تفعل غير تغذية تلك القناعة التي تسند عصمة الأصوليين. هكذا يمكن أن يقال مثلاً، إن البلوجينز في خدمة المنديل، تماماً كما سمعنا بعد سنوات عن الدكاترة الأصوليين.
أبعد من هذا أن إحساس الأصوليين بامتلاك الحق المطلق والحقيقة الكاملة هو ما ينبع من تجمد هذه (الحقيقة) بأخلاقياتها ومعالمها عصوراً مديدة على ما هي عليه. فالقيم الراسخة والنهائية لا يؤثر فيها التغير ورياحه إذ هي لا تطرح على نفسها معايير الامتحان أمام أي متغير.
لكن كون المرأة ضحية ليس خاتمة المطاف. فالضحية وبالضبط لأنها كذلك، مرشحة لأن تصير أداة طيعة في أيدي المتعصبين، أو على الأقل في أيدي أفكارهم. ألم نسمع عن النساء اللواتي تظاهرن بالسعودية احتجاجاً على (النساء السائقات) وسوقهن، ممن رفعن في جامعة الرياض يافطات كتبن عليها (للحرية). وغني عن القول إن عدداً كبيراً من النساء العربيات يبحث عن المكانة المحترمة وسط الأهل والجماعة والمجتمع بالدفاع الحماسي عن التقاليد والقوانين المسؤولة عن اضطهاد المرأة. فقد أخبرتني صديقة من الخليج قصة دالة عن جارة لها. قالت إن الجارة التي بلغت العشرين، لا تملك أية كلمة في المنزل ولا يؤخذ لها رأي بعين الاعتبار، وحتى الشؤون التي تخص حياتها ومستقبلها خاضعة لآراء الأب والأخ، وإجماعات العائلة التي تغلب دائماً وأبداً اعتبارات السمعة والصيت والمصلحة العائلية على ما عداها والعمل بنظام الأولوية، كما تضعه العائلة أيضاً على مسلك الفتاة وجميع اختياراتها وقراراته.
ولسبب ما اكتشفت الجارة في أحد الأيام أنها هي أيضاً تتمتع بسلطة. وكان أن أقدمت على تحريم الموسيقى في المنزل، ومنع التلفزيون، كما راحت توزع التعليمات حول كيفيات الصلاة والأكل والسلوك على نحو قويم بما جعل الممنوعات تتزايد بوتائر يومية في غفلة عن النور.
لم تفرض الأصالة والأصولية نفسيهما على هذه الفتاة بوسيلة القوة. فالواضح أن اختيارها إياهما منحها القوة والسلطة ومعهما التفوق والطمأنينة. بيد أنها طمأنينة وهمية لا تني تغري عدداً كبيراً من النساء العربيات اللواتي لا يعثرن على سند فعلي في المجتمع الحديث أو شبه الحديث. فالحداثة المبتورة، التي سمحت بلبس البلوجينز وبوضع التلفزيون في البيت والاستماع إلى الموسيقى الغربية، أوجدت بذوراً وإمكانات للاستقلال الفردي، لكنها أنشأت أيضاً ما لا حصر له من تناقضات وصعوبات تتلو اعتماد القرار الحر. وكيف لهذا الأخير أن يتخذ بيسر وسهولة في ظل اقترانه بثقافات أهلية ينضح منها التهديد بالعقاب والتخويف من ضياع الصيت والمس بالشرف والكرامة.
وبشيء من الحسبة يبدو الانكفاء إلى دفء التقليد والمألوف قوة محضة، ولو وهمية، واندماجاً من موقع السيطرة، ولو كان اندماجاً في العبث. أما المقابل المعرض للخسارة، كالاستماع إلى الموسيقى أو مشاهدة التلفزيون، فهو مما يمكن التضحية به بسهولة لقاء كل ذاك الفوز العظيم.
هذه الحسبة زائفة بطبيعة الحال، أو على الأقل، هذا ما نكتشفه حين تتذكر أنها تخسر أيضاً حقها في اختيار زوجها، وحقها في الاحتفاظ بأولادها عند الطلاق، وحقها بالسفر والتنقل الحر، أو أنها تكرسها حقوقا لزوجها. لكن يبقى، ورغم ذلك كله، أن الفتاة المذكورة تواجه في آخر المطاف الخيارين التاليين اللذين تواجههما غالبية النساء العربيات: إما التصدي المباشر للتقاليد المسؤولة عن كبتها، ومن ثم الاصطدام بالاجماع الشعبي قبل أن يكون رسمياً، وإما الإسهام في رص هذا الإجماع وتدعيمه عبر المشاركة في كرنفال التصفيق وخصوصية قيمه وعدالة قوانينه.
أعود إلى تظاهرة بيروت التي علمتني وجهاً آخر من وجوه تعريف الأصولية، هو أنها نقيض الخيار.
أغامر بالقول إن الأصولية، ومن ورائها الأصالة التي كان لها مذاق العسل عند مثقفينا في العقد الماضي، تقعان على الأذن وقع الكذبة الانتهازية الصريحة. فمن الذي يحدد الأصالة؟ ولماذا تعمل دائماً على تكريس اضطهاد معين؟ ولماذا يغيب عن أصحابها هذا الحس الإنساني، أو هذا الهم الإنساني الذي يصبو إلى تحرير الجميع من دون اضطهاد فئة معينة؟ وأخيراً هل تكلم أحد الأصاليين أو الأصوليين في السودان، مثلاً، عن عدم أصالة ختان البنات؟
غني عن القول إن فكرة العودة إلى الأصل لا تهجس إلا بالعودة إلى الطبيعة أي إلى القوة. وهي بهذا المعنى، فكرة مضادة للمرأة التي إذا ما نالت حقوقها عُدّ هذا اعتداء على الطبيعة... والأصالة والشعب، الأمر الذي يمكن أن يوصف به استيراد سيارة أو شراء دواء لتسكين آلامنا.
وكثيراً ما رأينا تقاليد جديدة في صورة مفاجئة قوة وزخما يقنعاننا بصدورها عن مئات السنوات، أو بأنها طبيعية ظهرت مع وجودنا على هذا الكوكب.
لكن عن أية تقاليد نتحدث؟ هنا يسطع خبث الأصوليين ممن اختاروا بعض التقاليد، وأضافوا إليها تقاليده اخترعوها، لفرضها بصفتها الطريق المستقيم الأوحد.
ولئن كان كل ذوق فردي يحمل نزعة تسلطية ما، حتى لو كان ذوقاً ليبرالياً جداً، ففضيلة التسامح، التي لا أثر لها عند الأصوليين، هي أنها تحد من مفاعيل النزعة المذكورة جاعلة احتمال الذوق الآخر واجباً ومثالاً، ومطلباً أيضاً.
يخطر لي أن الخيار أقرب إلى الذوق منه إلى الموضوعية، والعالم أذواق شتى. فإلى متى تمضي قبضات تلك النسوة المتشنجات، وقبضات كثيرات غيرهن، ترتفع في مواجهة ذوق معين اختار صاحبه الاختلاف؟ وما بالنا نمضي إلى ما لا نهاية، في تحريض النهر على مياهه؟
1994*
* كاتبة لبنانية «1952 – 2007»