أثناء تحضيري لكتابة مقالي هذا، ورد على ذهني الإمام ابن رجب الحنبلي، ربما لأننا في شهر «رجب»، والناس اليوم ما عادت في غالبها تؤرخ بالتقويم الهجري، مع الأسف.

ليس «التقويم» موضوع مقالي، إنما العالم الحافظ أبو الفرج زين الدين عبدالرحمن الشهير بابن رجب، أحد مشاهير السادة الحنابلة، في القرن السابع الهجري، وصاحب كتاب «جامع العلوم والحكم»، الذي شرح فيه خمسين حديثا من جوامع الكلم النبوي، جمع جلها الإمام النووي في كتابه المبارك «الأربعين النووية».

في كتاب الإمام ابن رجب، الجامع للعلوم والحكم، وعند شرحه لتوجيهات وأوامر رسول الله إلى صحابته رضي الله عنهم، وأمته التي أتت بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا..»، والحديث مبسوط في الكتب، ومن شرح معانيه، أتوقف عند الذي قاله الإمام، ابن رجب، بخصوص جزئية التباغض، وهو قوله رحمه الله: «ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورًا، وقد لا يكون معذورًا، بل يكون متبعًا لهواه، مقصرًا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيرًا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعًا، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه، فهذا الظن قد يخطئ ويصيب..».

لا شك عندي في أن اختلاط الحق بالباطل، والتباس الأمور على الناس، هو أهم متسبب في وقوع الاختلافات والمنازعات بينهم، إضافة لعدم تمكين الطبقة المتخصصة من النقاشات العلمية الكبرى، مما زاد من تراجع العناية بسؤال أهل العلم، وتحول الفراغات المختلفة إلى ساحات لانتقاد الدين، والجراءة على أصوله وقواعده، وزاد الطعن والتخوين، والحكم على النيات، وتفشت الكراهية والأحقاد، كما قال الإمام بالتمام: «ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم..».

شخصيا، على يقين تام، أنه ليس وراء التباغض، بنوعيه، وأقصد الظاهر منه والمخفي، إلا الهروب من الاعتدال اللازم، إلى سيطرة المزاج الخاص، وهو ما يعني انعدام التوازن الذي أراده الله لمخلوقاته، وضياع فهم المسؤولية الأخلاقية الواجبة على كل أفراد البشر، وضياع التفاهم والتعاون، وضياع التوازن العادل للمصالح المختلفة، وضياع إدراك أن وحدة الناس وإن كانت أمرا مطلوبا، فإنها لا تعني أن يكون الكل داخل «فكر» أو «قالب» واحد، ولا مانع أبدا من تعدد الأشكال والصور، وخصوصا في المعتقدات والمذاهب، خاصة بعد أن طال التنوع غالب ما حولنا، ومن حولنا، وزاد الاقتناع بأن التعدد المتناغم، والتنوع المنضبط هما من أهم أساسيات انسجام الناس مع بعضها، لكيلا يقعوا في «التباغض»، و«الانغلاق»، و«الإقصاء»، و«التشكيك»، و«الغفلة» بقصد أو بدونه، عن القاعدة الذهبية في التعاملات بين الناس، والتي وضعها لهم من لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم: «من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تُخْفِرُوا اللَّه في ذمّته».