لو ألقينا نظرة شاملة على «نهاية المجتهد وبداية المقتصد» لابن رشد الأندلسي، وهو كتاب في الفقه المقارن، ويؤسس لنظرية في الخلاف الفقهي، لوجدنا الكتاب يخلو خلوًا تامًا من أي تأثيرات أجنبية، فهو ذو صبغة عربية إسلامية خالصة، لم تتأثر بأي ثقافة يونانية أو أرسطية، إذ يعبر الكتاب عن انتماء عربي إسلامي أصيل، ويكشف في واقع الأمر عن حقيقة ابن رشد الثقافية والفكرية.

الكتاب يعد أهم منتج علمي قدمه ابن رشد، فهو أهم مؤلفاته بما يتضمنه من تأصيل علمي وفهم كبير للواقع الفقهي في الحضارة الإسلامية. وقبل كل ذلك يظهر الوجه الحقيقي لابن رشد باعتباره فقيهًا لا أكثر، وليست له أي علاقة بأرسطو أو الفلسفة اليونانية، فالكتاب لا يظهر فيه أي أثر لأي ثقافة يونانية إطلاقا. وعلاقة ابن رشد بالفقه الإسلامي تكاد تكون غائبة عند كثير من المثقفين العرب والمهتمين بالفلسفة والفقه.

الصورة النمطية لابن رشد بوصفه فيلسوفا، مضللة ومغلوطة وتعكس جهلًا بحقيقته، والأهم من ذلك تعكس جهلًا مركبًا بماهية الفلسفة وأصلها وتاريخها، والوقوع في مثل هذه الأخطاء الفادحة لا يسلم منه حتى المختصون بالفلسفة والمهتمون بها من كتاب ومثقفين في العالم العربي. صحيح أن ابن رشد له اطلاع واسع على الثقافة اليونانية ومعتقداتها الدينية وأفكار فلاسفتها، بل شرح وعلق على فلسفاتهم وأفكارهم، ولكن هذا لا يجعل منه فيلسوفًا، فحاله كحال ابن تيمية، كلاهما مطلع على الثقافة اليونانية ومعتقداتها الدينية، ولكن كليهما يتعامل مع الفلسفة اليونانية باعتبارها مقابلًا دينيًا وثقافيًا لما يحملانه من معتقدات، ولا يتعاملان معها باعتبارها مشتركًا إنسانيًا غير مرتبط بديانة أو ثقافة بعينها. لذلك لم يسمح ابن رشد بتسرب الأفكار والمعتقدات اليونانية لكتابه المهم «نهاية المجتهد».

الاعتقاد السائد بأن ابن رشد فيلسوف نتيجة طبيعية لجهلنا بحقيقته، وقبل كل شيء جهلنا بحقيقة الفلسفة، وهذا الجهل نتيجة طبيعية لعدم وجود ترجمة مناسبة لمفهوم أو مصطلح «الفلسفة»، فنحن لا نعرف عن الفلسفة إلا ترجمتها الحرفية «محبة الحكمة»، ونعتقد أنها مجموعة من الأفكار التنويرية المتحررة من أي معتقدات دينية، وهنا تكمن المشكلة (التعامل مع الفلسفة بمعزل عن سياقاتها الدينية). من أين جاء أرسطو بفكرته عن العناصر المكونة للكون «النار، الهواء، التراب، الماء» هي ليست فكرة عقلانية حرة ولكنها معتقد ديني تشبع به المخيال اليوناني.

أليس «عالم المُثُل» لأفلاطون معتقد ديني يوناني؟ المعتقدات اليونانية التي تعبد الأبطال وتعتقد أن إرادتهم مستمدة من الإرادة الإلهية كانت جزءًا من أفكار هيجل في فينومينولوجيا الروح، وجزءًا لا يتجزأ من فلسفة نيتشه عن السوبرمان أو الرجل الخارق؟ الشك الديكارتي هو الآخر مبني على معتقد ديني يؤمن بوجود شيطان ماكر يخدع الحواس ويشكك الإنسان حتى في وجوده.

موروثات اليونان، وعلى رأسها الفلسفة، تحتاج من المثقف العربي النظر لها من زاوية جديدة بعد ربطها بسياقاتها الدينية والثقافية، وقبل أي شيء منحها الترجمة العربية الصحيحة كي تقترب من الأذهان.