اليوم، حل التفكير وربما الجدل، محل التسليم والرضا عند كثير من الناس؛ فالكل يفكر والجميع يناقش، وليس ذلك عيبا، إلا لو كان التفكير مربوطا بنية تعطيل الأمور، أو بعدم وعي بكيفية التعامل مع النصوص المختلفة، أو بعدم الإدراك المناسب لواقع الحياة وضرورة أن يعيش المعاصر من البشر داخل عصره وزمنه، وليس خارجهما.

إعادة عجلة الزمن للخلف أمر مستحيل، ومن يظن غير ذلك يحتاج إلى أن يسرع في إصلاح القصور الذي أصابه، سواء أكان ذلك القصور في فهم تأثر أحكام الدين بالدنيا، أو تأثر الدنيا بما يستجد فيها من أحداث وأوضاع، وهو الذي أقره صالحو العلماء، الذين فقهوا العلاقة بين الزمان والمكان والإنسان، وفهموا الواقع، واستشرفوا المتوقع، وتعاملوا مع نصوص الدين بنظرة شمولية، ذكروها في كلامهم، ومنهم الإمام الشاطبي، الذي قال في الباب الرابع من كتابه الممتع «الاعتصام» عند حديثه المستفيض عن «مأخذ أهل البدع بالاستدلال»، قال رحمه الله تعالى: «كثيرا ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة؛ اقتصارا بالنظر على دليل ما، واطراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره أو المعارضة له؛ وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا، وربما أفتى بمقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه غرض»، وهو كلام عميق للغاية، وربما الأعمق منه ما ذكره أيضا بعد ذلك بصفحات، ونصه: «إن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها إلى ما سوى ذلك من مناحيها.. كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، لا من دليل منها أي دليل كان، وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك الدليل؛ فإنما هو توهمي لا حقيقي.. فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة؛ وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما ـ أي دليل كان ـ عفوا وأخذا أوليا، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكأن العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا، فمتبعه متبع متشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ»..

مشكلة النصوص الشرعية والناس اليوم مشكلة كبيرة جدا، ربما ألخصها في الانحراف عن ومن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات، وعدم ضم أطرافها مع بعضها، إضافة إلى الجهل بمقاصد الشرع، واجتزاء ما يناسب المستدل بها، وهو ما ولد ثقافة مأزومة يعيشها مثلا من يقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، ويتوقف عن تمامها وهو قوله سبحانه وفي نفس الآية: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، أو من يقرأ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء}، ويتوقف عن تمامها: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ..}.