ما زالت ظاهرة التطرف موجودة، والرفض المطلق للفرق والمذاهب مستمر داخل النسيج المتطرف، وما ذاك إلا بسبب ضعف الخطاب الموجه ضد أيديولوجيا التطرف، وليس ضد التطرف نفسه، فالخطاب الموجه ضده يهاجم التكفير الموجود به أو التبديع أو التخوين أو التعرض للآخر بالقتل أو الاعتداء، أو يسرد تنظيمات التطرف وانقساماتها وتطورها الزمني، لكنه لا يتعرض للأسس الفكرية أو الأدبيات التي اعتمد عليها، والتي يجب تصحيحها ومنها..

الأولى: تصحيح قاعدة الأصول والفروع في الشريعة وتحديدهما بدقة، فالمتطرفون يتوسعون في الأصول فيجعلون بعض الفروع أصولا، كالأدلة الإجمالية مثل أخبار الآحاد والإجماع، فهم يجعلون هذه الأدلة قواعد كبرى، حتى إذا استدلوا بها لا يستطيع من يوجّه له الخطاب إلا الرضوخ لأقوالهم.. وكذلك بعض فروع العقيدة، يجعلونها أصولا حتى يعتقد المتلقي أنه خالف العقيدة فيستجيب لهم.

الثانية: التخفيف من تقديس أقوال العلماء السابقين، خاصة إذا كانت في العقيدة كما يصفونها هم، وأن القول إذا صدر من عالم محدد فإنه لا يخطئ بها لأنه ذو عقيدة صافية، فالفروع الفقهية يلتفتون فيها للدليل أحيانًا أما الأصول -كما يصفونها- فيلتفتون فيها للمستدل -للعالم- وليس للدليل، بحيث يكون العالم مرضيًا عنه أولا، ومزكّى حتى يأخذون منه، فإذا كفّر شيخهم أحدًا فإنهم يستدلون به في تكفيره لأنهم يستبعدون الخطأ عليه، وهذا ما يجب تفنيده، فالعالم المرضي عنه عقديًا قد يخطئ فيما كان موضوعه عقديًا.

الثالثة: التخفيف من تعظيم التراث البشري ودحض فكرة أنه الصواب الأوحد، وأن الصواب قد يأتي في أي زمن وليس له زمن محدد، فكل صاحب مذهب يرى أن تراثه المذهبي صوابًا في المجمل، ويستبعد أي مؤثرات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية قد تؤثر به.

الرابعة: التقليل من الاعتماد على المعاني الحرفية للنصوص الشرعية، لأن المستهدفين بالتأثير فيهم أكثر انسياقًا وراءها لقلة علمهم ووعيهم حتى ولو لم تكن هي مراد النص، فالمعاني الحرفية من أبلغ أدواتهم في الاستدلال، ويرون غيرها تمييعًا وليًا لأعناق النصوص.

الخامسة: تصحيح مفهوم الاحتساب، ويعنون به المسؤولية الدينية عن المجتمع ولو باستخدام القوة قدر المستطاع، سواء من خلال السلطة أو بالإرجاف حول موضوع لا يريدونه -إن لم توافقهم السلطة- أو التحزب ضد شخص وافتعال حملات ضده إعلاميًا أو إلكترونيًا، مع أنه لا يوجد أي نص يوجه باستخدام القوة ضد أي عاص سوى في الحدود المثبتة قضائيًا، أما استخدامها ارتجاليًا أو التأليب وبقية الأساليب التي يستخدمونها، فلا تعرفها الشريعة ولم يأمر بها القرآن ولا السنة، ولم ينقل عن النبي أنه ألّب ضد منافق أو شن حملات تشويه ضده، رغم أنه يدعو للشرك في الخفاء، فكيف بما هو دونه.. وما ينقلونه من مواقف تاريخية من أهل البدع والتضييق عليهم أو هجرانهم، فهي أقوال بشرية غير معصومة وذات مغزى في أزمنتها، وأما الآن فلا جدوى منها، فهل لاحظوا شخصًا ممن ألبوا عليه قد تراجع؟ بل الوضع على العكس.

هذه بعض من أسس التطرف وليست جميعها ولكنها الأهم.. فإذا حُرِّرَت بشكل صحيح فإن التطرف لن يستطيع الاعتماد عليها في تمرير ما يريد وسيقل تأثيره، وأما تجاهلها فيؤدي إلى ظهور التطرف على أشكال أخرى، بمسميات أخرى.