التاريخ علم له شأن عظيم، به تسمو الرتب، وتعلو الهمم، وترتفع الأقدار، وتتفاخر الأوطان، وإهمال التاريخ ونسيانه أو تناسيه ليس من شيم أهل الفطن، ولا من طبع أولي الألباب، وكما يقال: «ما أَفَلَحَ قَوْمٌ ضَيَّعُوا تَارِيْخَهُم» ويقول أمير الشعراء شوقي:

(مَثَلُ القَوْم نَسَوُا تَارِيْخَهَمْ كَلَقِيْطٍ عَيَّ في الحَيِّ انْتِسَابَا

أو كَمَغْلُوْبٍ على ذَاكِرَةٍ يَشْتَكِيْ من صِلَةِ المَاضِي انْقِضَابَا)

والحمد لله- أننا في هذه البلاد لم ننسَ، ولم نتناسَ ماضينا العريق، وتاريخنا المجيد، ونحن نعيش في ظل قيادة عظيمة تحدّرت من قادة أشاوس صنعوا التاريخ وصانوه، وحافظوا عليه ودوّنوه في صحائفه الخالدة بأحرف من ذهب، وسخّروا كل الوسائل لنشره وإبرازه والاحتفاء بكل مناسبة تحلّ علينا من مناسباته الخالدة، ومنها هذه المناسبة العزيزة التي تؤرخ لانبلاج فجر يوم مجيد في تاريخنا الوطني هو منتصف عام 1139هـ الموافق للثاني والعشرين من شهر فبراير 1727م.

ذلك اليوم هو مبتدأ تأسيس هذه البلاد على يد الإمام المؤسس محمد بن سعود -رحمه الله-، فهو الجد الأقرب لملوكنا من آل سعود الميامين، وواضع الأسس الأولى لفجر جديد قامت على بنيانه جميع المراحل التي قطعها أئمة آل سعود وملوكهم في حكم هذه البلاد على مدى تاريخهم الممتد حتى عصرنا هذا الذي نعيشه آمنين مطمئنين في ظل قيادة واعية وحكم رشيد، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يحفظه بحفظه، وأن يؤيده بنصره، وأن يثبّت أركانه، ويشيد بنيانه إلى أبد الآبدين.

وما منّا في هذا الوطن الغالي إلا ويعرف قصة التأسيس، فهي مسطورة ومذكورة ومحفوظة في مضان كثيرة من مضان التاريخ السعودي، وكُتِبَ عنها الشيء الكثير في العام الماضي، أما موضوع الاحتفاء بيوم التأسيس فهو أمر ملزم على كل مواطن ومقيم على تراب هذه الأرض الطيبة بموجب أمر ملكي كريم من لدن ولي الأمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -أطال الله بقاءه وحفظه.

وكما معلوم ومندوب عليه أن طاعة ولي الأمر واجبة، وأمره مطاع، فضلاً عن أنه يوم إجازة وطنية، والإجازة الوطنية لا تُمنح عادة إلا ليوم فرحة وسعادة، وهل من فرحة تعادل ما نحن فيه اليوم من أمن وأمان، وتقدم وتطور وازدهار، ومن سعة في الرزق، ورغد العيش ؟!!

وهل من فرحة أغلى من فرحتنا ونحن نشاهد أطفالنا يرقصون وينشدون، ويشيدون بمآثر الأجداد وتضحياتهم في سبيل وحدة الوطن، وإرساء بنيانه على أسس قوية وسليمة؟!! وعندي أن يوم التأسيس هو محطة مهمة في حياتنا نحن المؤرخين، وأرباب الأقلام ينبغي أن نتوقف مليًّا عندها لاستعراض سيرة ذلك الإمام العظيم محمد بن سعود، والصفات الحسنة والسجايا الحميدة التي كان يتحلى بها -رحمه الله-، والحروب التي خاضها، والجهود الخيّرة التي بذلها في مسعى منه لتحقيق مشروعه الوحدوي الرامي إلى تأسيس كيان كبير يتجاوز حدود نجد ليشمل جزيرة العرب بأكملها.

وكذا تأسيس حكم أسرة ملكية استمر لأكثر من 300 عام على الرغم من الكبوات الخطيرة التي اعترضت سبيل ذلك الحكم المتوارث الذي يؤمل له البقاء والاستمرار والنماء لقرون عديدة، وأزمنة مديدة بحول الله وقوته ومشيئته، خصوصًا وقد استطاعت أسرة آل سعود في مختلف أدوار حكمها إقامة وحدة إقليمية اندماجية قلّ ما يماثلها في مختلف حقب التاريخ، وكوّنت من عدة شعوب وقبائل مختلفة ومتباينة شعبًا واحدًا متآلفًا وملتفًا التفافًا أزليًّا حول قيادته الرشيدة المنصورة إن شاء الله بنصر الله وتوفيقه مهما تقادم عليها الحدثان وتعاقب الليل والنهار.