الدهشة أم الحقائق الإنسانية التي تسوق صاحبها إلى الكشف عن المجهول، وإطراح ما هو هامشي وليس مراداً في حياة هذا الإنسان البسيط، أن يُدركه كي يقف على حقائق الأشياء.

تواترت مقولات كثير من الراسخين في الحكمة والفلسفة أن الدهشة هي أس الفلسفات، قول أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس «هذا الانفعال أو العاطفة -يعني الدهشة- يميز الفيلسوف حقًّا.

وليس للفلسفة أصل سواه»، وكثير -إن لم يكن جل الفلاسفة- ما وصلوا إلى ما سطروه من علوم مفيدة للإنسانية، إلا أنهم قبل أن يمارسوا التفلسف، اندهشوا، حالة الاندهاش هذه مهمة جداً لإدراك ماهية الجزئيات المستَفهم عنها دائماً، التي تتموضع في الإنسان ويبحث عن إجابات.

ولدي يقين أن كل إنسان رزقه خالقه انداهاشات عديدة، بيد أن الاختلاف في مدى قدرة هذا الإنسان على التأمل بعمق في تحريك تلك الاندهاشات، ما دفع الناس في الأصل وما يدفعهم اليوم إلى التساؤلات العميقة والبحوث الفلسفية الأولى، هي الدهشة، ذلك أن النقيض ليس جيداً بالنسبة للإنسان لأن فاقد الدهشة كائن ميت.

هذه الدهشة يتوجب أن تكون متأسسة على أصول علمية كي تستمر لما بعدها، بيد أننا في زمن حتى الدهشة فيه تتأسس على ضحالة في المعرفة، التي تؤدي إلى الجهل المركب، واقعة حدثت ونحن في الدراسات العليا في أعرق الجامعات الأمريكية التي تُدرس القانون، حيث كانت الدهشة تعلو على كثير من محيا الطلاب من بني جلدتنا عند سماع مصطلح من المصطلحات الأجنبية الجديدة، فيزداد إعجابهم بتلك الثقافات التي حوت تلك المصطلحات، وتنبعث في مخيلاتهم وأنفسهم حركة علمية ظاهرية لم تكن ذات أساس قويم، فترسخت تلك المصطلحات فيهم ظانين أن الثقافات التي جاءوا منها لم تكن تحتوي أياً من تلك المصطلحات، وهذا فيما يظنون وهو ظن يحمل معنى التوجه المرجوح الشاك لا المعنى اليقيني، حيث إن الظن لدى علماء اللغة والأصول يحمل معاني عديدة تختلف باختلاف السياق عند موارد النصوص، وهذه نكتة يجهلها أصحاب الثقافات الأجنبية، فتجدهم يتخبطون في إدراك المعاني والمصطلحات بسبب إطراحهم لمقامات السياقات عند قراءة النصوص، فالظن قد يحمل معنى اليقين «يظنون بربهم»، وقد يحمل معنى الشك، فقد قال ابن فارس «ظن»، الظاء والنون أصيل صحيح يدل على معنيين مختلفين يقين وشك.

فأما اليقين فقول القائل: ظننت ظنا، أي أيقنت، قال الله تعالى: ﴿قال الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم﴾ أي والله أعلم يوقنون. والعرب تقول ذلك وتعرفه، وهو في القرآن كثير، وقال الجرجاني: الظن استعمل في معنى الشك: وهو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك، وقال ابن منظور: الظن شك ويقين، إلا أنه ليس بيقين عيان، إنما هو يقين تدبر، وقال الزبيدي: الظن هو التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد غير الجازم.

ونقل عن المناوي أنه قال: الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويستعمل في اليقين والشك، والظن قد جاء بعدة معان منها الشَّك، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْبَقَرَة: ﴿إِن هم إِلَّا يظنون﴾، واليقين. ومنه قوله تعالى في البقرة: ﴿الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا رَبهم﴾، وفي سورة الحاقة: ﴿إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه﴾، والتهمة، ومنه قوله تعالى في التكوير: ﴿وَمَا هُوَ على الْغَيْب بظنين﴾، أَي بمتهم، وَالحسبان، ومنه قوله تعالى في الانشقاق: ﴿إِنَّه ظن أَن لن يحور﴾، أَي: حسب، والكذب، ومنه قوله تعالى فِي النَّجْم: ﴿إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا﴾ قاله الفراء. وما تقدم لعله دربة لأصحاب الثقافات الأجنبية كي تعلم أن اللغة العربية والثقافة التي تأسست منها تحمل مصطلحات يجهلونها، ومن تلك المصطلحات التي انبهروا بها (Estople doctrine)، وهو بمعنى الإغلاق، يغلق السبيل أمام أي شخص يقطع على نفسه وعدا تجاه شخص آخر بإبرام أمر معين، ويحول دون رجوع الطرف الأول عن وعده.

ومبدأ الإغلاق هو أحد المبادئ الشائعة في قانون الأحكام العامة الإنكليزي (Common Law )، والذي بمقتضاه يحظر على أحد الطرفين الرجوع عن وعده الذي قطعه تجاه الآخر الذي اعتمد عليه هذا الأخير بشكل منطقي ومعقول على هذا الوعد وتصرف على أساس ذلك، بحيث إن رجوع أو عدول عن ذلك الوعد سوف يُلحق ضررا جسيماً، وهذا المعني موجود بالفقه الإسلامي في القواعد الفقهية، حيث قرر الفقهاء أن (من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه)، فكل عمل يصدر عن الشخص ويؤدي إلى نقض أو هدم أو إبطال ما أجراه، وتم من جهته باختياره ورضاه، فلا اعتبار لنقضه ونكثه ورجوعه، وذلك لأن الشريعة الإسلامية ومقاصدها جاءت كي تجعل الأمور بين البشر على وجه الاستقرار إذا ما تمت بين الإطراق.

وتتشوف مقاصد الشريعة إلى حسم النزاعات وطرح الخلافات ونبذ الشقاق بين المتعاملين بتأسيس مبادئ العدالة وعدم الغش والتدليس ونفي التغرير، كي تظهر كل التعاملات صحيحة سليمة من العيوب ما أمكن، لذا فإن الاندهاش المبني على الجهل المركب هو في حقيقته ليس ذلك الاندهاش الذي بدأ به الحكماء وعلماء النظر والتأمل، الاندهاش المقصود هو الذي يقود إلى مزيد من العلم والمعرفة، ومن أسسه معرفة أصول الأشياء والمصطلحات وعمق الثقافات، وليس ذلك الاندهاش المنكر للعلم والمعرفة.