حين قرأت ما كان من موقف الزعيم المصري الموفّق اندفعت في روحي تلك القوة الكامنة التي أخذت مكانها في كل قلب مصري، واشتعلت تلك الشعلة الخالدة في روح الإنسان الحُر، وتوهَّج الفكر الناري الذي يضيء للحي طريقه في الحياة.

لا أحب أن أتناول في هذه الكلمة سياسة أنقدها أو أحبذها، وإنما أحب أن أبين عن روح القوة الأدبية الهائلة التي تدفع الرجل أن يعلن رجولته في الموقف المتضايق، حيث تفقد أكثر النفوس ضياءها ونورها، وترتد إلى ظلام دامس من الجبن والارتياع والخوف والحرص والطمع. إن الأيام المحاربة التي نعيشها اليوم على هذه الأرض الظامئة إلى الدم المسفوح هي أيام ستعيش في تاريخ الإنسانية حمراء تلمع بنيران الشر الذي استحدثته في العالم مدنية فاسدة قد قامت على الشهوات التي تسبح في الدم الأحمر سبحا، وتلطم فيه بسواعدها المفتولة لطمات ترتفع بموج تيَّار متقاذف تتحطم في دفاعه الفضائل الإنسانية التي يعتصم بشاطئها العقل الإنساني السامي والروح الإنسانية الفاضلة.

فأما رجل استطاع أن يقف بفضائله الخالدة وقفة الجبل الشامخ المتطامن بأعضائه على أرض الإنسانية فهو مثل: تسمو إليه الأبصار، وفي لمحها ضوء يتسم بالفرج، وفي وميضها ذلك الحنينُ الفطري إلى الفضيلة الثابتة التي تجعل الإنسان خلقا آخر بين الإنسان والملائكة إذا هي استولت على مراشده، وتسلطت على قهر مَغَاوِيه.

إن غاية الأدب هي إنشاء الروح الإنسانية في كل جيل إنشاء ساميا عبقريا يستطيع أن يقاوم الفساد الذي يتطرق دسيسا إلى النفس في ركودها، فتتعفن بآفات كثيرة تعرض لها من قبله تستطيع معها الجراثيم الماردة أن تعمل عملها الشيطاني في إبادة الإيمان الذي فُطرت النفوس البشرية على محبته والحرص عليه.

وإذا رأيت أكثر أصحاب الفنون يقولون: إن الفن للفن والأدب للأدب، ولا يبالون أن يكون ذلك الفن وهذا الأدب عملا أسود مغبرا تثور في ظلماته الأتربة الخانقة التي تثيرها شياطينُ الشهوات الراكضة في الأرض، إذا رأيت ذلك فاعلم أن هؤلاء إنما يأتون ما يأتون بحماقاتهم على الهوادة والبُلَهْنِيَة؛ فإن أشقّ أعمال الإنسان هو أن يعمل، وأن يعرف ما يعمل، وفيم يعمل؟ ولم يعمل؟ وإلى أين هو منته بعمله؟ وما هي الصلة التي تربط العمل بالحياة التي تحيط به؟ وكيف هو أثره فيها؟

والأدباء والفنانون قد ركنوا من قديمهم إلى ضروب من الراحة والدعة وإرسال النفس على سجيتها، ولولا رجالٌ منهم صبروا على المشقة والجهد والبلاء، وأرهقوا العقل بالفكر، والسمو بهذا الفكر، والإلحاح في طلب هذا السمو، والمثابرة على هذا الإلحاح، لكان الأدب هو البلاء الوحيد الذي أعان الإنسان على قتل إنسانيته، ومهد للحيوانية أن تغلب وأن تتحكّم.

إن بعض الخيانة يكون بتسليم العدو سلاحًا من أسلحة الوطن السرية التي تدفع عنه عادية الشَّر الذي يصبه عليه الأعداء، ولكن أعظم الخيانة أن تعمل على نزع سلاح الوطن باللذة والطراوة والرفاهية وطلب الراحة ورفض الجهد، وحتى يجد الوطن أبناءه وهم يتخلون عنه، بالتأنث والخلاعة والمرح وإطلاق وحوش الشهوات من عقالها، تتفرق في وجه تطلب صيدها الذي تجد فيه شبعا من جوع، وريا من ظمأ، بل وحتى تعود النفس طالبة وتأبى أن تكون مجاهدة في الطلب!

ماذا قال الرجل المسكين الذي كان بالأمس يتكلم عن جروح قلبه بصوت الآلام المتفجرة فيه من أقصى تاريخه الوطني والحربي؟ ماذا قال المرشال بيتان في رسالته إلى الشعب الفرنسي؟ ماذا قال لهؤلاء الأغفال الحمقى الذين يتكلمون بكلام الشهوة المجنونة التي نشرت في دمهم جميع أبالستها؟ إنه يقول للشعب الفرنسي الماجن المنهزم بل لهذا العالم الفاسد الذي نعيش فيه: «منذ سنة 1918 عمت روح السرور والمرح، وطغت على روح التضحية، فطالب الناس بأكثر مما أعطوا، وأرادوا أن يكفوا أنفسهم مشقة بذل الجهود، ولذلك هزموا في حرف الحياة والموت».

إن هذا السطر الصَّغير من كلمات المرشال الحربي يصيحُ كلُّ حرفٍ بآلام إنسانية سامية لا يدرك هؤلاء الحمقى مداها إنها حكمة الأجيال البعيدة قد جاءت تتكلم على لسان رجل طاعن في السن، قد ذاق حلو الأيام ومرها، ومجد سيفه بالجهاد والفخر سنين عددًا، ثم ها هو يضع هذا السيف بضراعة وذلة وانكسار وتفجع، وينظر إليه نظرات تئن وتبكي وتتهالك، يا له من رجل!! يا له من حكيم!! يا له من فيلسوف في ثياب حربية !!

وإذا كان المرشال بيتان يعاني آلام التسليم بعد قتال باسل فهو في هذا التسليم رجل أي رجل، رجل رأى أمته تتفانى وتبيد بين يديه وعلى مد بصره، وليس في القتال بعد ذلك أي خير إلا زيادة الجروح في قلوب الشعب الفرنسي، رجاله ونسائه، في أفئدة أمهاته وآبائه في ذاكرة التاريخ التي لا ترضى أن تكون الحماقة. النهاية العقلية العظمى للإنسان.

لقد نامت فرنسا جيلا طويلا من عمرها، واسترخت للذاتها، وعاشت على جوع شهواتها، وترفعت عن الجهد والمشقة وعنت البحث عن الحقيقة والعفة والشرف، فوجب إذن أن تتحمل تبعة الغفلة والمتابعة والانقياد لغرورها وغرور شيطانها الذي دفع بها بين براثن ضار لا تقوم حقيقة ضراوته إلا على الافتراس والفرفرة والقضقضة وقضم اللحم الطري الغضّ المعرَّض له.

إن فرنسا الذاهبة يجب أن تعطي الأجيال الفرنسية القادمة محنة يتغلغل ذلُّها في صميم القلب؛ ليوقظ ذلك القلب من فراش اللذة المخدرة التي كان قد استلقى عليها مسترخيا في وهدة بَسْطِه وسروره.

المذلة عبء ولو أن المرشال بيتان حمَل الشعب الفرنسي على غير هذا المركب لكان قد أساء إلى وطنه الذي يحبه ضعف ما أساء هذا الشعب إلى نفسه، ولا يفوتن أحدًا أن رجولة هذا الشيخ المسكين في احتمال. التي أرسلها القدر على فرنسا جزاء ما تواهنت وتناومت هي الرجولة التي لا تضارعها إلا رجولة المحارب الباسل المستعد حين يأبى إلا أن ينتصر أو يموت دون النصر، وبذلك تنتصر روحه على الذل إلى الأبد.

ولا تعجبن إذا نحن وضعنا رجولة الزعيم الوطني الماجد «علي ماهر» على صراط واحد مع الجنرال بيتان، فإن موقف هذا الرجل سوف يقف هو في التاريخ المصري مثالا على حدته، يتكلم بكلام الروح السَّامية التي تأبى أن تندفع في التهور إلى نهاية الهلكة، إنه سوف يشرف على الأجيال المصرية القادمة ليقول لها:

هذا رجل مصري قد استطاع أن يرقى إلى ذروة الجبل الشامخ، تتحطّم تحت أقدامه كل الحجارة المسنونة التي غرزتها في سبيله ومرقاه أعداء باغية أرادت أن تدفع بمصر على يديه إلى حضيض هذا الجبل مهشمة محطمة ذليلة قد هلكت على غرور وخداع وفتنة.

إن هذا الرجل الحكيم الصَّارم قد أثبت عدة مرات في تاريخ مصر أنه ابن مصر الذي جرت في دمائه أحداث التاريخ المصري، وأنه الرجل الذي استوعب تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي والأدبي والعقلي، فهو يعمل ويتحدث بإملاء هذا التاريخ وهديه، فليس يرى وهو يدفع مصر إلى ضلال تضل به إلى أن يصيبها ما أصاب الغزال المتفلسف الذي ذهبت به فلسفته إلى أن يدرس سرَّ القوة المفترسة الكامنة في أنياب الأسد ومخالبه، فهذا الرجل سيكون وحيا جديدا في الفكر المصري ما وقف هذا الموقف من أجل مصر في أدق الساعات التي تمتحن هذا الشعب امتحانا قاسيا عنيفا مهددا باغيا.

وأنت تسألني: وأين هذا من الأدب الذي قد نصبت له نفسك، وعقدت على أسبابه عزمك، وعكفت عليه لا تحاول غيره؟!

وأنا لا أستطيع أن أجيب من يسأل، ولكني أعرف أن الأدب هو الذي ينشئ الرجال للشعب.

ونحن لا نشك أن فطرة هذا السياسي البارع هي فطرة أدبية محضة، وأن هذه الفطرة الأدبية التي طبع عليها -وإن كنت لم أتشرف بمعرفته- هي التي حملته على أن يقف هذا الموقف لا يتزعزع في قصف هذه العاصفة المرسلة في ساعة يذهب فيها كلُّ عمل باطلا إن لم يكن آتيا من قبل الروح، ومسدّدًا ببلاغة العاطفة، ومعانا بإرهاف الحس، ومؤزّرًا بقوة البصيرة التي تتطلع من وراء الأجسام الطبيعية إلى أسرارها وحقائقها، وموفّقًا بتوفيق الله الذي أعطى وسَلَب. إن الحق لا يضيع ما دام في الدنيا من يستطيع أن يعبر عنه ببلاغة الفكر البياني العامل للأدب، ومن يستطيع أن يبين عنه ببلاغة العمل السياسي القائم على روح الشعب.

1940*

*كاتب وباحث مصري «1909 - 1997»