وكان رأيي أنها ليست كذلك، فمؤسسات المجتمع المدني دورها ريادي ومؤثر في المجتمعات، وكنت أقصد ألا ينفرد جهاز اجتماعي ضخم بالفرد، كإحدى مهمات مؤسسات المجتمع المدني، ومن قرأ بعضًا من أدبيات الفكر السياسي الحديث يعرف أن الغالب عليه هو البحث عن الآليات التي تحول دون الاستفراد بالفرد الذي لا حول له ولا قوة، ثم أضفت بشكل عام أن دراسة الصالونات الأدبية من دون المجتمع تبدو لي بلا فائدة، فالمجتمع هو الذي يحتضن الصالونات، وكما بدا لي فإن إقامتها ليس أكثر من علامة على التميز والوجاهة الاجتماعية، فبينما يدور الكلام فيها داخل فضاء اجتماعي خاص ومغلق، فقد تركت هذه الصالونات الفضاء العام للتيارات الإسلامية الحركية، تعبث بها وتطوعها.
وفي مقابل معرفتي عشرات الصالونات الأدبية الخاصة التي أنشأها أصحابها، لا أعرف أن داعية متطرفًا أنشأ صالونًا في بيته لأن هدفه هو الناس والتأثير فيهم، وليس تداول معارف معينة بين مجموعة من الناس المتطرفين، فضلا عن ذلك فإن هذه الصالونات لا تتبنى ثقافة أخرى غير الثقافة الرسمية، لا تعرض ثقافة مختلفة عن الثقافة السائدة في المجتمع، وبالتالي فهذه الصالونات لا تختلف عن أي إذاعة أو تليفزيون أو صحيفة رسمية.
بعد تعليقي وبين ندوتين ناقشني أكاديميان كل على حدة، وبالأحرى كي أكون دقيقا فهما لم يناقشا، ولم يجادلا فيما تحدثت به، بل ظهر من كلامها أن المصلحة أن تكون هناك ثقافة واحدة لكل المواطنين، فهي التي تضمن الوحدة وتدعم اللحمة الوطنية، وأن أي ثقافة أخرى غير الثقافة الرسمية تؤثر سلبيًا في الوحدة الوطنية، وتظهر الوطن أمام الآخرين الأعداء بدون اللحمة الوطنية التي يفترض أن يكون عليها، تحدثا معي بروح من ينظر إلي أن التعدد الثقافي يدمر اللحمة الوطنية، وأن أي صوت مختلف يجعل من صاحبه شاذًا عن الجماعة، التي عليها أن تعيده إلى رشده.
تحدثا وأنا صامت، ليس لأنني غير قادر على الدفاع عن أهمية تعدد الآراء والثقافات، بل لأنني شعرت بعدم الفائدة من نقاش سيفضي إلى انفعال عاجز، ثم إنني أعرف صعوبة استماعهما إلى الآراء المختلفة، وأنها مهمة ليست سهلة، لاسيما في مجتمع لم يتعودا فيه على ذلك، لقد تعلما والغالب منا نفاد الصبر، ولم نتعلم الصبر، وتعلمنا عدم أهمية أن نستمع إلى شخص يختلف رأيه عن آرائنا، أو إلى ثقافة مختلفة، ولم نتعلم أن هناك فائدة مرجوة من رأي أو ثقافة مختلفة، وأننا إذا لم نتحدث إلا مع الأفراد الذين يتفقون معنا في الرأي وفي الثقافة فسنظل مقيدين بثقافتنا ورأينا، ولن نعرف أبدًا أي احتمالات أخرى للرأي أو الثقافة.
لكن من حسن الحظ أن التعلم يستمر مدى الحياة؛ لذلك فهناك إمكانية أن نتعلم كيف ننصت إلى رأي مختلف حتى لو تقدمنا في العمر، فإن لم يتفق أحد معي في الرأي ولا في الثقافة فإن أحدنا سيفتح للآخر وجهة نظر أخرى، وتجربة أخرى.
يمكننا أن نتعلم ذلك حتى ونحن نكبر، بأن نكون متفتحي الذهن، وصبورين ومستعدين لأن نستمع إلى الآخر فعلا، فهناك فرق بين إرادتي أن أثبت لك أن رأيي صحيح، وثقافتي هي الوحيدة وبين أن أدفعك إلى أن تدرك بأن رأيك غير مناسب، فضلا عن ذلك، فهناك فرق بين أنني أريد أن توافق على رأيي وبين أنني أريد أن أعرض عليك منظورًا مختلفًا، ثم إن هناك ما هو أهم وهو أن أضع نفسي مكان الآخر، لأذكر نفسي بأنني لو كنت أنظر من منظوره فسيكون لي الرأي الذي يتبناه.
وفي هذا السياق، أعني تعدد الآراء والثقافات لن أقول جديدًا، فقد قيل مرارًا وتكرارًا أن هناك ثلاث ثقافات رئيسة في حياة أي مواطن، الأولى هي الرسمية، وهي الثقافة المعروضة في وسائل الإعلام، والتي ندرسها في المدارس والجامعات، الثانية هي ثقافة المواطن نفسه، تتعلق بالعالم الذي يخلقه حين يرتد إلى ذاته، عالم تجاربه مع ذاته، ومع الآخرين، عالم إنتاجه للمعرفة الذاتية وهو يقرأ الكتب وهو يناقش.. إلخ.
الثالثة هي ثقافة الصلات التي يقيمها المواطن مع ما حوله، مع الشجر والمدر والكائنات، ثقافة اكتشاف العلاقات المفقودة والمحجوبة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والمجتمع، وبين عرق وبين عرق آخر، المواطن يشعر بالسياق الاجتماعي الذي يعيش فيه، ويعي الوضع الجماعي للجماعة؛ لذلك فهو يعيش هذه الثقافات حتى وإن لم يع ذلك، والمواطن السوي هو المواطن الذي يكون هو ذاته، وليس مجرد متلق تتطابق ثقافته مع ما يقدم له، فهو فاعل تاريخي اجتماعي، والفرق بين مطابقة ثقافته للثقافة الرسمية وبين عدم مطابقتها يتمثل في تفكيره النقدي، وهو التفكيرالذي يقلق.
في الواقع ونحن نعيد بناء الوطن الحديث سنسمع من الخارج ما يغيظنا، لكن يجب أن نتعود على ما لم نتعود عليه، سيغيظنا الأعداء الذين كنا نلغيهم ونتجاهلهم، يوم كنا لا نقرأ الكتب التي تتبنى وجهة نظر أخرى، ولا نستمع إلى الإعلام الذي يختلف معنا في التوجهات، يجب أن يتغير الزمن الذي كنا فيه لا نسمع إلا ما يرضينا، لذلك فنحن في مرحلة تعلم مهمة، أن نستمع إلى ما لا يرضينا من الأعداء والحساد، وأن تتسع صدورنا لكل الوسائل التي تهاجمنا.
تحتاج السعودية الحديثة منا أن نعي خصائصنا حين تسنح لنا الفرصة لنراها من الخارج، أن ننظر إلى أنفسنا من الخارج؛ يعني أن ننظر من موقع آخر نواجه به تحيزاتنا وأخطاءنا، فكل شيء يستفزنا حينما يتحدث الآخرون عنا يؤدي إلى فهمنا أنفسنا، ما يثار ضدنا يجب أن نسمعه، فنحن نحتاج إلى نقطة خارجة عنا لكي ننقد أنفسنا.
وأظنه عالم النفس كارل يونغ الذي قال: نحن في حاجة إلى نقطة خارجية نرتكز عليها لكي نجري عملية النقد، أما في الداخل فإذا لم يكن الرأي نقدًا متبوعًا بالتحريض أو مصاحبًا للعنف اللفظي، وإن لم يترتب على الرأي ضرر فردي أو جماعي، أو يترتب عليه أذى نفسي للأفراد فلا يمكن أن يكون خطرًا على وحدة الوطن ولا على لحمة المواطني، بل إن الخطر على الوطن وعلى لحمة المواطنين يكمن في تبني الرأي الواحد، وتجاهل الآراء الأخرى التي لا تتفق معه، فلو اتفقت البشرية جمعاء على أن ماء البحر عذب، فلا يحق لها منع فرد واحد يقول إن ماء البحر مالح، لسبب بسيط جدًا وهو أنه يملك الدليل الحسي على ذلك.
أنا وأنت لسنا الفرد ذاته، ونحن ليست جمعًا لأنا، بل جمعا لأنا وأنت، وإذا كان المجتمع الأكاديمي على شاكلة هذين الأكاديميين فهناك مشكلة حقيقية في أن تخلق جامعاتنا مجتمعًا حيويًا يتوافق مع تطلعاتنا إلى أن تكون الحيوية هي نواة مجتمعنا المستقبلي، وأصل هذه النواة هو التفكير النقدي، فالمجتمع دون تفكير نقدي يتحول إلى مجتمع خائف من المستقبل، تغيب عنه الأسئلة، ويكون مرهونًا بالإجابات المقدمة له من دون سؤال.
إن الخطر الكامن في مثل هذه الحالة (إجابات وليست أسئلة، رأي واحد، ومعنى واحد، وثقافة واحدة)، فإن عمل الأكاديميين يدفع الطلاب إلى عدم استخدام عقولهم، وإذا ما استخدم الطلاب عقولهم فلا يعرفون كيف يستخدمونها؛ لذلك تتكون طبقة تحتكر المعرفة في مقابل طبقة تابعة وآنية فارغة يعبؤنها هؤلاء، لا حق لها في أن تفهم بل أن تحفظ، ولا أن تسأل بل تقبل الإجابة، ولا أن تفكر لأنها غير جديرة ولا مؤهلة، يصبح هذا الخطر أشد على الباحثين والمثقفين، ويمكن لباحث مدقق أن يلحظ أثر هذا في الإنتاج العربي والغربي في المجال الثقافي بصفة عامة والإنتاج العلمي في مجال الدراسات النقدية والنفسية والاجتماعية، فالإنتاج العربي في الغالب ليس أكثر من جمع ما قاله أو اعتقده آخرون.
يروي أنطون مقدسي في حوار له مع سعد الله نوس أنه سأل أحد أساتذة الفلسفة في فرنسا عن الطلاب فقال: «إنهم مجتهدون، وموثقون جيدون، بل إن قدرتهم على التوثيق أفضل بكثير من الأجيال السابقة.. لكن.. ويا للأسف تنقصهم اللمعة، والقدرة على التركيب».
الفكرة ذاتها عبر عنها عبدالله العروي بصيغة أخرى قائلا: «مسألة المنهج ليست مسألة شكلية، مسألة مراجع وإحالات ونقاش آراء بكيفية منتظمة، إلخ، بل هي قبل كل هذا مسألة قطيعة مع مضمون التراث» متى يكتسب الباحث اللمعة والتركيب في إجابة الأستاذ الفرنسي؟ متى ينظر الباحث العربي إلى المنهج على أنه قطيعة كما يؤكد العروي؟ حين يصبح فضوليًا تجاه إجابات الآخرين عن الأسئلة، وقلقًا من الإجابة بدون دليل فلا يطمئن إليها، ويشك فيها.
كل هذه القيم المعرفية، أعني الشك وحب الاستطلاع، واحترام الأدلة، هي قيم أساسية من قيم المعرفة الحديثة لا يمكن لها أن تكون في مجتمع جامعي ليس فيه للصوت المختلف مكان، ومن الناحية الأوسع من الفرد تصبح كثرة الإجابات وندرة الأسئلة في المجتمع الجامعي علامة على مشروع سلطة، وإنتاج هيمنة ليبقى الحال كما هو، وفي رأيي أن أحد الفروق المهمة بين المجتمعات الجامدة والمتطورة.
وفي هذا السياق من قرأ مقدمة كتاب المؤرخ الفرنسي فرنان برودل (هوية فرنسا) سيقرأ اعترافه بأنه يحب وطنه فرنسا مرة واحدة وإلى الأبد، وأن لا أحد يمكن أن يزايد على حبه لفرنسا، ومع هذا الحب الأبدي لوطنه إلا أنه قال إنه سينحي حبه جانبًا عن الدراسات التي يتضمنها الكتاب، وأنه سيحرص على مراقبة حبه الأبدي لوطنه كي لا يتسلل من دون أن يشعر ليتحدث عن وطنه كما لو أنه يتحدث عن وطن آخر، يعني هذا الحياد العاطفي عند فرنان برودل أنه إن لم يفعل ذلك فسيكون قد استسلم استسلامًا مخزيًا لكمال العواطف السياسية؛ إذا ما استخدمت صيغة إدوار سعيد (الاستسلام المخزي) لشرح ما يعنيه بندا بخيانة المثقفين.
وفيما يخصني فوحدة وطني لا تقدر بثمن، وغير قابلة لأي نقاش كان، ومهما كان، ومن أي نوع كان، لكنني أرى أن الضامن لوحدته لا تكون على طريقة هذين الأكاديميين التي سأسميها الاستسلام المخزي للعواطف، بل على طريقة أخرى هي تعدد الأصوات التي لن تمنعني من التفكير فيما أراه يدعم وحدة وطني ويعززها، ونقد كل ما أراه لا يساعد على ترسيخ هذه الوحدة.