لا تقدم كتب السيرة الذاتية للأديب تجاربه وتاريخه الفردي فحسب، فغالبا ما تتضمن إرثا إنسانيا يمكن من خلاله رسم تصور شامل عن مسيرة الأمم والشعوب، وتتبع تدرجها الحضاري عبر التاريخ. في كتاب «البئر الأولى» للفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، اقتصر على نقل حياته في طفولته، منذ بدأ يعي ما حوله من أناس وأشياء حتى مرحلة الصبا التي عاشها في بيت لحم ثم القدس.

هذه السيرة الذاتية مهمة للغاية، ليس لأنها تصور طفولة روائي يعد ركنا من أركان الرواية العربية، وتنقل حياته الخاصة في تلك المرحلة فحسب، بل هي أبعد غورا لأنها تمتد لتجارب الآخرين آباءً وأجدادا، يتوارث عنهم صفاته وثقافته الشخصية. نستطيع بعد قراءة «البئر الأولى» أن نأخذ تصورا عاما عن الثقافة المسيحية في بيت لحم وهي ثقافة قديمة عاشت في ظل الحضارة العربية الإسلامية قرونا طويلة منذ أيام الفتح الإسلامي لبلاد الشام في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، باعتبارها ثقافة أهل ذمة أو أقلية دينية.

سيرة جبرا وثيقة أنثروبولوجية لم ينس كاتبها أن يصور خلالها حياة الكنائس والأديرة والأناشيد والطقوس والأعياد الدينية، وينقل الثقافة المسيحية في بيت لحم بكل تفاصيلها، فقد عاش جبرا طفولة ذات طابع ديني، التحق فيها بمدارس دينية طبعت شخصيته. ومع أنها ثقافة تنتمي لأقلية دينية ولكنها عاشت قرونا طويلة في ظل الحضارة العربية الإسلامية وبجوار عاصمة واحدة من أكبر الإمبراطوريات في تاريخ البشرية وهي الدولة الأموية.

الثقافة المسيحية في بيت لحم تراث عريق وممتد لقرون طويلة، ولم تتعرض هذه الثقافة لأي عامل من عوامل الإبادة الثقافية أو التمييز على أساس الدين أو المعتقد، بل عاش أبناؤها في أجواء تتميز بالحرية والتسامح، وهذا ما لمسناه في سيرة جبرا أحد رواد الحداثة الأدبية، يؤكد ذلك الحرية الدينية والثقافية التي عاشها الكاتب في طفولته بين أهله وأبناء قريته، ووثق مظاهرها في سيرته الذاتية. فكيف عاشت هذه الموروثات الدينية والثقافية، وعبرت عن نفسها بكل أريحية طوال قرون عديدة، دون أن تتعرض لأي إبادة ثقافية؟

المظاهر الثقافية والدينية المعروضة في «البئر الأولى» استمرت لأنها لم تتعرض طيلة القرون الماضية لأي أعمال عنف، سواء كان جسديا أو رمزيا، فلم يحدث أي انتهاك وتخريب للمراكز والرموز الثقافية، سواء كانت أعمالا فنية أو آثارا دينية، ولم يخضع المنتمون لتلك الثقافة لأي ظروف معيشية يراد بها تدميرهم ماديا، كليا أو جزئيا. ولم تفرض أي تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل أعضاء الجماعة أو نقل الأطفال من جماعة إلى أخرى لفرض التغيير الثقافي. وهذا يؤكد أن تراث الثقافة العربية الإسلامية كان متسامحا ولا يحمل أي صفات عنف متأصلة، بدليل أن هذه الأقليات الثقافية والدينية مارست حريتها الدينية والثقافية دون أن تتعرض للأذى.