إذا ابتعدنا قليلا عن التعريف التقليدي للبداوة وهو (التنقل والترحال من مكان لآخر، بحثا عن الماء والكلأ، وعدم الاستقرار في مكان واحد، والتجول بين الصحاري والقفار)، نجد - غالبًا - أن صفات البدوي تبقى معه، ربما نجد ذلك في جيلنا أو من قبلنا، ولا أعلم عن الجيل الجديد، فمع كل جيل تتغير النظرة، وربما يحدث ما يشبه (تخفيف للتركيز) لبعض الصفات والعادات.

منذ عقود ونحن نعيش خارج الوطن من أقصى غرب الأرض إلى شرقها، وقد تكتسب بعض العادات من هنا وهناك، ولكن يبقى الجين البدوي مسيطرا (إذا جاز التعبير).

كنت في الرياض قبل أيام، وجمعة الأهل - حفظهم الله جميعًا - لا يعدلها شيء في العالم، حتى أبسط العادات اليومية التي قد لا يلاحظها كثيرًا من يعيشها بشكل يومي، لكن بالنسبة لنا تعتبر شيئًا خاصًا، (قومة الصبح)، وتلقى البيت تفوح منه رائحة البخور، ورائحة القهوة، شيء كبير يبعث الذكريات والنوستالجيا، ويبعث السعادة.

لكن حدثًا بسيطًا في ميزان البعض هو شيء كبير مفقود للبعض الآخر، كان موسم (الفقع) والكمأة، طبعًا البدو عادة يطبخون (الفقع) مع اللحم (حميس)، وإذا كان مطبوخًا بزبدة غنم (يا سلام!).

في هذا الوقت تضع جانبًا كل ما تعرفه من نصائح الطب والكوليسترول والأكل الزائد، ويخرج البدوي الذي بداخلك وتستمتع، لا تسألنا عن عدد السعرات الحرارية في هذا الأكل الدسم، لكن اسألنا عن عدد سعرات السعادة والاستمتاع بهذا الأكل التقليدي. من فضل الله تعالى زرت وعشت في عشرات الدول ومن فضله وحده أكلت في أفخر مطاعم العالم من ذوات نجمات ميشيلان، لكن لا شيء يعدل لذة الاستمتاع والاجتماع مع أهلك وتناول هذه الأكلة التقليدية البدوية، تشعر بطعم الأكل وكأن مطاعم العالم التي أكلت فيها سابقا لم تصنع شيئا لذيذا. هل هو الطعم أم الاجتماع والمكان أو النوستالجيا والذكريات، أم كلهم مجتمعون؟ لكن ما نعرفه جيدًا أنك في تلك اللحظة شعرت بجينات البداوة هي المسيطرة، طبعًا لا نستطيع أن نختزل عراقة البداوة في مثال بسيط مثل هذا، البداوة كانت وما زالت منظومة حياة وصفات وأخلاقًا وكرمًا وشجاعة وترابطًا، لكن هذه بعض الصفات.

وأيضًا أعتقد لو أحضرت أي بدوي عاش لعقود في الغرب أو الشرق وتركته قليلا في الصحراء أو النفوذ لوجدته هائمًا بالحب مع الرمال، البدو يحبون (الخلا) وسكون الصحراء، ربما ذلك هو ما يشعرهم بحريتهم، عندما تجلس في البر تستشعر جزءًا من إنسانيتك ربما غطت عليه قليلا حياة المدينة وصخبها.

لا تلوموا الشاعرة ميسون زوجة الخليفة عندما فضلت الصحراء والبراري عن قصور المدينة:

لبيت تخفق الأرواح فيه

أحبُ إليّ من قصر منيف

ولبس عباءة وتقـرّ عيني أحبُ إليّ من لبس الشفوف

وأكل كسيرة فـي كسر بيتـي

أحبُ إليّ من أكـل الرغيـف

وأصوات الريـاح بكـل فـج أحبُ إليّ من نقـر الدفـوف

وتعجبني جدًا قصيدة مهندس الكلمة (البدر) الأمير بدر بن عبدالمحسن، لأنها تصف فعلا حال البداوة والبدوي، تكلم البدر بلسان كل بدوي لا يستطيع أن ينظم الشعر، وبوصف فريد ورائع فأخرج قصيدته بل درة من درر الشعر البدوي (النبطي):

يا بنت أنا للشمس في جلدي حروق

وعـلى سموم القـيظ تزهر حـياتي

أطرد سراب اللآل في مـرتع النوق

ومــن الظما يجـرح لساني لهاتي

عاري جسد والليل هـتّان وبروق

دفـاي أنا والبرد سـمل العـباتي

إن عذربوني بعض خلانك.. صدوق

يا بنت أنـا عـشق الخلا من صفاتي

أنا بدوي.. ثوبي عـ(المتن) مشقوق

ومن الجبال السمر صبري ثباتـي

ومثل النخيل خلقت أنا وهامتي فوق

وما اعتدت أن أحني قامتي إلا فصلاتي