يیدأ جبرا إبراهيم جبرا روايته البحث عن وليد مسعود بعبارة ينسبها لبطله تقول «تمنيت أن للذاكرة إكسيرا يعيد إليها كل ما حدث في تسلسله الزمني، واقعة واقعة، ويجسدها ألفاظا تنهال على الورق»، وتكتسب العبارة دلالتها ليس فقط من تعبيرها عن حلم جبرا بل عن حلم الروائي عموما، فاللهاث وراء ما حدث في محاولة للإمساك والإحاطة به بتفسيره ونثره، وتكثيفه وتجسيده، وتجريده، هو المحرك الأساسي للروائي. ولكن يبقي السؤال الفيصل، من أي منظور وبأية وسيلة يقدم الروائي ما حدث؟ هنا تتشعب السبل وتتعدد الأجوبة تبعا للمواقف الفلسفية والمواقع السياسية وخصوصية التكوين المزاجي والقدرات الإبداعية للكاتب.

وفي روايتي (الوقائع الغريبة في اختفاء أبي النحس المتشائل) ( 1974) لإميل حبيبي و(البحث عن وليد مسعود) (1978) لجبرا إبراهيم جبرا، ارتكاز على واقع التجرية الفلسطينية المعاصرة في ظل الغزو الاستيطاني الصهيوني.

تمتد التجرية المقدمة في الوقائع الغريبة من العام 1948 إلى ما بعد 1976، أما البحث عن وليد مسعود فتغطي رقعة زمانية أوسع، تبدأ من السنوات التالية لنهاية الحرب العالمية الأولى وتنتهي بعد أحداث 1970.

يقدم إميل حبيبي في (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل) القوى الفاعلة والمتفاعلة داخل اللحظة الفلسطينية المعاصرة، عبر مجموعة من الشخصيات يمثل كل منها قوة اجتماعية بعينها فلا تظهر شخصيتان لهما الدلالة الاجتماعية نفسها.

ويشكل مجموع العلاقات المتوازية والمتعارضة لهذه الشخصيات نسيج الواقع الاجتماعي في الرواية.

هناك أولا سعيد أبو النحس المتشائل، هذه الشخصية اللا بطلة الطريفة، إنه ابن النحس والنكبة خرج من عباءتها وتعلم منها السير مع التيار، وتعود سلبيته إلى رغبة الاستمرار ولو بالتحول إلى عميل للمؤسسة الصهيونية الحاكمة.

ولكنه رغم عمالته يظل يحتفظ بداخله، بالسر المدفون، ألا وهو جوهره الأصيل، انتماؤه الوطني لذلك فهو حين يتزوج لا يتزوج إلا باقية الفلسطينية المحتفظة بجذورها في الأرض، وحين ينجب فلا ينجب إلا ولاء الذي أراده للدولة، ولكنه يصبح، بثورته على الدولة، ولاء للجذور والسر المدفون.

وللبطل سعيد المتشائل نقيض يقابله هو البطل سعيد الذي يقدم لنا كملك متسريل بعباءة حمراء أرجوانية (هذا السعيد هو الفدائي سيد المشهد الفلسطيني وعباءة ملكه هي عباءة الدم التي اختارها).

يساير سعيد المتشائل أعداءه، ويعيش في الدياميس مؤثرا سلامة المشي بجوار الحائط. يختنق حتى لا يموت. أما سعيد الفدائي فعنيف يموت حتى لا يختنق. الأول هو «الندل» أما الثاني فهو سعيد «الملك» ومع هذا فكلاهما سعيد، وليس الاسم المشترك صدقة، كلاهما ينتميان لسر الباقية المدفون، وليعاد ( حبيبة المتشائل وأم سعيد الفدائي ) ويعاد وباقية حالتان للشيء ذاته، يعاد هي فلسطين في المنفى، وباقية فلسطين في الأسر.

وينتهي الأمر بسعيد معلقا فوق خازوق. ولم ينقذه اختياره لدور الندل، والخادم، إنه في مأزق تاريخي كفلسطيني في دولة إسرائيل مستعمر ومضطهد عنصريا ومستغل طبقيا. وليس سعيد وحده في مأزقه هذا، فمعلمه، يعقوب اليهودي البسيط الذي أتي إلى فلسطين طمعا في الخلاص، يجد نفسه أيضا معلقا فوق خازوق وهو يقول لسعيد (كل وفاروقه وحيد، وهذا هو خازوقنا المشترك). ( ص 194) هذا الخازوق المشترك هو دولة إسرائيل، وينتهي الأمر بسعيد معلقا فوق خازوق. ولم ينقذه اختياره لدور «الندل» والخادم، إنه في مازق تاريخي كفلسطيني في دولة اسرائيل، مستعمر ومضطهد عنصريا ومستغل طبقيا. وليس سعيد وحده في مأزقه هذا «فمعلمه» يعقوب اليهودي البسيط الذي أتى إلى فلسطين طمعا في الخلاص يجد نفسه أيضا معلقا فوق خازوق وهو يقول لسعيد «كل وخازوقه وحيد، وهذا هو خازوقنا المشترك»، هذا الخازوق المشترك هو دولة إسرائيل، إذ يتضح الآن لكل ذي بصيرة تاريخية إنها عقدت المشكلة اليهودية ووضعت بسطاء اليهود ممن هاجروا إليها في مأزق حتى وإن لم يعِ غالبيتهم أبعاده المأساوية. ويبقى المستفيد الفعلي هو الرجل الكبير ذو النظارة السوداء ممثل المؤسسة الصهيونية في الرواية.

ويتسم تحليل إميل حبيبي للواقع السياسي والاجتماعي بوضوح كبير ينعكس في تفاصيل الصورة التي يقدمها للقوى الفاعلة في اللحظة الفلسطينية المعاصرة. ورغم أن مركز الصورة هنا هو المتشائل اللابطل إلا أن المشهد في مجمله يصور الحركة الملحمية لنضالات الشعب من 1948حتى ما بعد 1967.

هكذا يتحرك سعيد المتشائل بما يثيره من سخرية وهزل على خلفية حية من العذابات والبطولات والهجرة الجماعية ونسف البيوت والتسلل للعودة والصمود والمقاومة.

وماذا عن هندسة الشخصيات في البحث عن وليد مسعود؟

من المؤكد أن هذه الهندسة تتم على أساس مختلف إذ لا يقدم الكاتب هنا الشخصيات في توازنها وتضادها كدلالة على قوى اجتماعية فاعلة، بل كتعبير عن فروق فردية في التكوين المزاجي. هناك أولا وليد مسعود بطل الرواية الذي يقدم لنا كنموذج للفلسطيني في المنفى. تمتد جذوره في ارض الكدح الفلسطيني ويصبح في المنفى جزءا من النخبة المثقفة للبرجوازية العراقية، ويصور جبرا بطله في ضوء مثالي فيجعل منه شخصا كامل الأوصاف، فهو قوي ووسيم تتهافت النساء عليه، يجمع العلم من أطرافه إذ درس الاقتصاد والفن واللاهوت. يتقن عددا من اللغات، مقبل على الحياة والمعرفة إلى حد الشبق، وهو رجل أعمال ناجح وكاتب ومفكر، ثم هو فوق هذا كله يشارك في الثورة الفلسطينية.

أما باقي الشخصيات فتنتمي إلى النخبة المثقفة من الطبقة الوسطى العراقية، فمنهم المهندس والطبيب والكاتب والباحث والفنانة التشكيلية وأستاذة الجامعة، عالمهم واحد وإن اختلفت مشاربهم ونواياهم وقدراتهم على تجاوز إحباطاتهم أو سقوطهم في العبثية أو تشوه نفسياتهم نتيجة لهذه الإحباطات. وتتحلق جميع هذه الشخصيات حول وليد مسعود في حياته وبعد اختفائه وكأنها وجدت لتبرز هذه الشخصية كوجود مختلف يتميز عنها ويفوقها.

فلنسأل أنفسنا ما هي مشروعية الكاتب في أن يصنع من بطله النموذج المثالي، وما الذي دفعه أصلا لفعل ذلك؟ لعلنا نجد بعض الإجابة في سؤال تطرحه إحدى الشخصيات حين تقول: هل تعتقد أن وليد مسعود كان فلسطينيا نموذجيا؟.

إن تتبعا دقيقا للنص سوف يكشف لنا عن رغبة جبرا في أن يجعل من شخصية وليد مسعود وجودا استعاريا للشعب الفلسطيني في المنفى بتعدد طاقاته واستمراره في البناء والمناطحة رغم قسوة الظروف.

هكذا يراه صديقه إبراهيم الحاج نوفل، يرى فيه، ذلك الفلسطيني الرافض، الرائد، الباني، الموحد (إذا كان لأمتى أن تتوحد)، العالم، المهندس، التكنولوجي، المجدد المحرك للضمير العربي بعنف.

ووليد مسعود في رأي صديقه هو روح الثورة وخميرتها. ولكن ليس هكذا فقط يريد جبرا لبطله أن يكون إذ إنه يبغي خلق توازن بين الشخصية الفردية المتميزة لوليد مسعود ونموذجيته الفلسطينية. ومن هنا فإن عيسى ناصر جار أبي وليد في فلسطين يرى فيه إنسانا فذا، عبقرية نادرا ما يجود الزمان بمثلها، فهو يقول: شعرت أن هذا المخلوق جاءنا خطأ، جاءنا إلى حيث ما كان عليه أن يجيء - جاءنا وكان لا بد له أن يجيء، جاءنا عاشقا ضالا غريبا، ووحيدا، رغم تهافت والديه عليه، رغم تهاف الناس، ورغم تهافت الدنيا عليه في غد قريب أو بعيد.

فليست غربة وليد إذن مجرد غربة الفلسطيني في المنفى أو في الأسر بل هي غربة الفنان، والعبقري (بمفهومها الرومانسي). ثم ليس هذان الوجهان لوليد مسعود إلا جزءا من صورته الكلية التي يتعدد الناظرون إليها وزاوية الرؤية. هذا ما يريده جبرا ويؤكده مسار الحدث في الرواية وبناؤها. هكذا يظل وليد مسعود في نهاية الأمر شخصية تعرفها ولا نعرفها. تدعونا لفهمها وتستغلق على فهمنا الكامل لها.

1981*

* روائية وأستاذة جامعية مصرية «1946 - 2014»